فصل: (الدَّرَجَةُ الْأُولَى: التَّوَكُّلُ مَعَ الطَّلَبِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***


فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏دَرَجَاتُ التَّوَكُّلِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ التَّوَكُّلُ مَعَ الطَّلَبِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ‏.‏ كُلُّهَا تَسِيرُ مَسِيرَ الْعَامَّةِ‏.‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ التَّوَكُّلُ مَعَ الطَّلَبِ، وَمُعَاطَاةِ السَّبَبِ عَلَى نِيَّةِ شُغْلِ النَّفْسِ بِالسَّبَبِ مَخَافَةً، وَنَفْعِ الْخَلْقِ، وَتَرْكِ الدَّعْوَى‏.‏

يَقُولُ‏:‏ إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ‏.‏ وَلَا يَتْرُكُ الْأَسْبَابَ‏.‏ بَلْ يَتَعَاطَاهَا عَلَى نِيَّةِ شُغْلِ النَّفْسِ بِالسَّبَبِ، مَخَافَةَ أَنْ تَفْرُغَ فَتَشْتَغِلَ بِالْهَوَى وَالْحُظُوظِ‏.‏ فَإِنْ لَمْ يَشْغَلْ نَفْسَهُ بِمَا يَنْفَعُهَا شَغَلَتْهُ بِمَا يَضُرُّهُ‏.‏ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْفَرَاغُ مَعَ حِدَّةِ الشَّبَابِ، وَمِلْكِ الْجِدَّةِ، وَمَيْلِ النَّفْسِ إِلَى الْهَوَى، وَتَوَالِي الْغَفَلَاتِ‏.‏ كَمَا قِيلَ‏:‏

إِنَّ الشَّبَابَ وَالْفَرَاغَ وَالْجِدَّهْ *** مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَهْ

وَيَكُونُ أَيْضًا قِيَامُهُ بِالسَّبَبِ عَلَى نِيَّةِ نَفْعِ النَّفْسِ، وَنَفْعِ النَّاسِ بِذَلِكَ‏.‏ فَيَحْصُلُ لَهُ نَفْعُ نَفْسِهِ وَنَفْعُ غَيْرِهِ‏.‏

وَأَمَّا تَضَمُّنُ ذَلِكَ لِتَرْكِ الدَّعْوَى فَإِنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِالسَّبَبِ تَخَلَّصَ مِنْ إِشَارَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، الْمُوجِبَةِ لِحُسْنِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ، الْمُوجِبِ لِدَعْوَاهُ‏.‏ فَالسَّبَبُ سَتْرٌ لِحَالِهِ وَمَقَامِهِ‏.‏ وَحِجَابٌ مُسْبَلٌ عَلَيْهِ‏.‏

وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ فَقْرُهُ وَذُلُّهُ، وَامْتِهَانُهُ امْتِهَانَ الْعَبِيدِ وَالْفَعَلَةِ‏.‏ فَيَتَخَلَّصُ مِنْ رُعُونَةِ دَعْوَى النَّفْسِ، فَإِنَّهُ إِذَا امْتَهَنَ نَفْسَهُ بِمُعَاطَاةِ الْأَسْبَابِ سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ‏.‏

فَيُقَالُ‏:‏ إِذَا كَانَتِ الْأَسْبَابُ مَأْمُورًا بِهَا فَفِيهَا فَائِدَةٌ أَجَلُّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ‏.‏ وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَهَذِهِ مَقْصُودَةٌ قَصْدَ الْوَسَائِلِ‏.‏ وَهِيَ الْقِيَامُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْأَمْرُ الَّذِي خُلِقَ لَهُ الْعَبْدُ، وَأُرْسِلَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ الْكُتُبُ‏.‏ وَبِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ‏.‏ وَلَهُ وُجِدَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ‏.‏

فَالْقِيَامُ بِالْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏ وَحَقُّ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ الَّذِي تَوَجَّهَتْ بِهِ نَحْوَهُ الْمَطَالِبُ‏.‏ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ التَّوَكُّلُ مَعَ إِسْقَاطِ الطَّلَبِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ التَّوَكُّلُ مَعَ إِسْقَاطِ الطَّلَبِ، وَغَضُّ الْعَيْنِ عَنِ السَّبَبِ؛ اجْتِهَادًا لِتَصْحِيحِ التَّوَكُّلِ، وَقَمْعًا لِشَرَفِ النَّفْسِ، وَتَفَرُّغًا إِلَى حِفْظِ الْوَاجِبَاتِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ مَعَ إِسْقَاطِ الطَّلَبِ‏.‏ أَيْ مِنَ الْخَلْقِ لَا مِنَ الْحَقِّ‏.‏ فَلَا يَطْلُبُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا‏.‏ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَنْفَعِهِ لِلْمُرِيدِ‏.‏ فَإِنَّ الطَّلَبَ مِنَ الْخَلْقِ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورٌ، وَغَايَتُهُ‏:‏ أَنْ يُبَاحَ لِلضَّرُورَةِ، كَإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ‏.‏ وَكَذَلِكَ كَانَ شَيْخُنَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الطَّلَبُ وَالسُّؤَالُ‏.‏

وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي السُّؤَالِ‏:‏ هُوَ ظُلْمٌ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وَظُلْمٌ فِي حَقِّ الْخَلْقِ، وَظُلْمٌ فِي حَقِّ النَّفْسِ‏.‏

أَمَّا فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ فَلِمَا فِيهِ مِنَ الذُّلِّ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَإِرَاقَةِ مَاءِ الْوَجْهِ لِغَيْرِ خَالِقِهِ، وَالتَّعَوُّضِ عَنْ سُؤَالِهِ بِسُؤَالِ الْمَخْلُوقِينَ، وَالتَّعَرُّضِ لِمَقْتِهِ إِذَا سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ يَوْمَهُ‏.‏

وَأَمَّا فِي حَقِّ النَّاسِ فَبِمُنَازَعَتِهِمْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ بِالسُّؤَالِ، وَاسْتِخْرَاجِهِ مِنْهُمْ‏.‏ وَأَبْغَضُ مَا إِلَيْهِمْ مَنْ يَسْأَلُهُمْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَحَبُّ مَا إِلَيْهِمْ مَنْ لَا يَسْأَلُهُمْ‏.‏ فَإِنَّ أَمْوَالَهُمْ مَحْبُوبَاتُهُمْ، وَمَنْ سَأَلَكَ مَحْبُوبَكَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِمَقْتِكَ وَبُغْضِكَ‏.‏

وَأَمَّا ظُلْمُ السَّائِلِ نَفْسَهُ فَحَيْثُ امْتَهَنَهَا، وَأَقَامَهَا فِي مَقَامِ ذُلِّ السُّؤَالِ‏.‏ وَرَضِيَ لَهَا بِذُلِّ الطَّلَبِ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ لَعَلَّ السَّائِلَ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَعْلَى قَدْرًا‏.‏ وَتَرَكَ سُؤَالَ مِنْ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏‏.‏ فَقَدْ أَقَامَ السَّائِلُ نَفْسَهُ مَقَامَ الذُّلِّ، وَأَهَانَهَا بِذَلِكَ‏.‏ وَرَضِيَ أَنْ يَكُونَ شَحَّاذًا مِنْ شَحَّاذٍ مِثْلِهِ‏.‏ فَإِنَّ مَنْ تَشْحَذُهُ فَهُوَ أَيْضًا شَحَّاذٌ مِثْلُكُ‏.‏ وَاللَّهُ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ‏.‏

فَسُؤَالُ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ سُؤَالُ الْفَقِيرِ لِلْفَقِيرِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى كُلَّمَا سَأَلْتَهُ كَرُمْتَ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ عَنْكَ، وَأَحَبَّكَ‏.‏ وَالْمَخْلُوقُ كُلَّمَا سَأَلْتَهُ هُنْتَ عَلَيْهِ وَأَبْغَضَكَ وَمَقَتَكَ وَقَلَاكَ، كَمَا قِيلَ‏:‏

اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ *** وَبَنِيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

وَقَبِيحٌ بِالْعَبْدِ الْمُرِيدِ‏:‏ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِسُؤَالِ الْعَبِيدِ‏.‏ وَهُوَ يَجِدُ عِنْدَ مَوْلَاهُ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ‏.‏ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً- أَوْ ثَمَانِيَةً، أَوْ سَبْعَةً- فَقَالَ‏:‏ أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ وَكُنَّا حَدِيثِي عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ‏.‏ فَقُلْنَا‏:‏ قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا‏:‏ قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ- وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً- وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِزْعَةُ لَحْمٍ‏.‏

وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ- وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ- وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى‏.‏ وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا‏.‏ فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ‏.‏

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا، أَوْ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ‏.‏ قَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ حَدِيثٌ صَحِيحٌ‏.‏

وَفِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا‏:‏ مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ‏.‏ وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ‏.‏

وَفِي السُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ تَكَفَّلَ لِي أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، أَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ، فَقُلْتُ‏:‏ أَنَا‏.‏ فَكَانَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا‏.‏

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ قَبِيصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ‏:‏ رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ‏.‏ وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ‏.‏ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ- أَوْ قَالَ‏:‏ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ- وَرَجُلُ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ‏:‏ لَقَدْ أَصَابَتْ فَلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ- أَوْ قَالَ‏:‏ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ- فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ فَسُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا‏.‏

فَالتَّوَكُّلُ مَعَ إِسْقَاطِ هَذَا الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ هُوَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَغَضِّ الْعَيْنِ عَنِ التَّسَبُّبِ، اجْتِهَادًا فِي تَصْحِيحِ التَّوَكُّلِ ‏"‏‏.‏

مَعْنَاهُ‏:‏ أَنَّهُ يُعْرِضُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالسَّبَبِ، لِتَصْحِيحِ التَّوَكُّلِ بِامْتِحَانِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَاطِيَ لِلسَّبَبِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ حَصَّلَ التَّوَكُّلَ‏.‏ وَلَمْ يُحَصِّلْهُ لِثِقَتِهِ بِمَعْلُومِهِ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنِ السَّبَبِ صَحَّ لَهُ التَّوَكُّلُ‏.‏

وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مَذْهَبُ قَوْمٍ مِنَ الْعُبَّادِ وَالسَّالِكِينَ‏.‏ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ الْبَادِيَةَ بِلَا زَادٍ‏.‏ وَيَرَى حَمْلَ الزَّادِ قَدْحًا فِي التَّوَكُّلِ‏.‏ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ مَشْهُورَةٌ، وَهَؤُلَاءِ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِمْ، وَإِلَّا فَدَرَجَتُهُمْ نَاقِصَةٌ عَنِ الْعَارِفِينَ‏.‏ وَمَعَ هَذَا فَلَا يُمْكِنُ بَشَرًا الْبَتَّةَ تَرَكُ الْأَسْبَابِ جُمْلَةً‏.‏

فَهَذَا إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ كَانَ مُجَرَّدًا فِي التَّوَكُّلِ يُدَقِّقُ فِيهِ‏.‏ وَيَدْخُلُ الْبَادِيَةَ بِغَيْرِ زَادٍ‏.‏ وَكَانَ لَا تُفَارِقُهُ الْإِبْرَةُ وَالْخَيْطُ وَالرَّكْوَةُ وَالْمِقْرَاضُ‏.‏ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ لِمْ تَحْمِلُ هَذَا وَأَنْتَ تَمْنَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مِثْلُ هَذَا لَا يُنْقِصُ مِنَ التَّوَكُّلِ لِأَنَّ لِلَّهِ عَلَيْنَا فَرَائِضَ‏.‏ وَالْفَقِيرُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَرُبَّمَا تَخَرَّقَ ثَوْبُهُ‏.‏ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِبْرَةٌ وَخُيُوطٌ تَبْدُو عَوْرَتُهُ، فَتَفْسُدُ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ‏.‏ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رَكْوَةٌ فَسَدَتْ عَلَيْهِ طَهَارَتُهُ‏.‏ وَإِذَا رَأَيْتَ الْفَقِيرَ بِلَا رَكْوَةٍ وَلَا إِبْرَةٍ وَلَا خُيُوطٍ فَاتَّهِمْهُ فِي صَلَاتِهِ‏.‏

أَفَلَا تَرَاهُ لَمْ يَسْتَقِمْ لَهُ دِينُهُ إِلَّا بِالْأَسْبَابِ‏؟‏ أَوَلَيِسَتْ حَرَكَةُ أَقْدَامِهِ وَنَقْلُهَا فِي الطَّرِيقِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَعْلَامِهَا- إِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ- مِنَ الْأَسْبَابِ‏؟‏

فَالتَّجَرُّدُ مِنَ الْأَسْبَابِ جُمْلَةً مُمْتَنِعٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَحِسًّا‏.‏

نَعَمْ، قَدْ تَعْرِضُ لِلصَّادِقِ أَحْيَانًا قُوَّةُ ثِقَةٍ بِاللَّهِ‏.‏ وَحَالٌ مَعَ اللَّهِ تَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ كُلِّ سَبَبٍ مَفْرُوضٍ عَلَيْهِ‏.‏ كَمَا تَحْمِلُهُ عَلَى إِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي مَوَاضِعَ الْهِلْكَةِ‏.‏ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْوَقْتُ بِاللَّهِ لَا بِهِ‏.‏ فَيَأْتِيهِ مَدَدٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى مُقْتَضَى حَالِهِ‏.‏ وَلَكِنْ لَا تَدُومُ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ‏.‏ وَلَيْسَتْ فِي مُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ‏.‏ فَإِنَّهَا كَانَتْ هَجْمَةٌ هَجَمَتْ عَلَيْهِ بِلَا اسْتِدْعَاءٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا‏.‏ فَإِذَا اسْتَدْعَى مِثْلَهَا وَتَكَلَّفَهَا لَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ‏.‏ وَفِي تِلْكَ الْحَالِ إِذَا تَرَكَ السَّبَبَ يَكُونُ مَعْذُورًا لِقُوَّةِ الْوَارِدِ، وَعَجْزِهِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالسَّبَبِ‏.‏ فَيَكُونُ فِي وَارِدِهِ عَوْنٌ لَهُ‏.‏ وَيَكُونُ حَامِلًا لَهُ‏.‏ فَإِذَا تَعَاطَى تِلْكَ الْحَالَ بِدُونِ ذَلِكَ الْوَارِدِ وَقَعَ فِي الْحَالِ‏.‏

وَكُلُّ تِلْكَ الْحِكَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تُحْكَى عَنِ الْقَوْمِ فَهِيَ جُزْئِيَّةٌ حَصَلَتْ لَهُمْ أَحْيَانًا، لَيْسَتْ طَرِيقًا مَأْمُورًا بِسُلُوكِهَا، وَلَا مَقْدُورَةً، وَصَارَتْ فِتْنَةً لِطَائِفَتَيْنِ‏.‏

طَائِفَةٌ ظَنَّتْهَا طَرِيقًا وَمَقَامًا، فَعَمِلُوا عَلَيْهَا‏.‏ فَمِنْهُمْ مَنِ انْقَطَعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهَا، بَلِ انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ‏.‏

وَطَائِفَةٌ قَدَحُوا فِي أَرْبَابِهَا، وَجَعَلُوهُمْ مُخَالِفِينَ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ‏.‏ مُدَّعِينَ لِأَنْفُسِهِمْ حَالًا أَكْمَلَ مِنْ حَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ قَطُّ يَفْعَلُ ذَلِكَ‏.‏ وَلَا أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَسْبَابِ‏.‏ وَقَدْ ظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ يَوْمَ أُحُدٍ‏.‏ وَلَمْ يَحْضُرِ الصَّفَّ قَطُّ عُرْيَانًا‏.‏ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ وَلَا مَعْرِفَةَ‏.‏ وَاسْتَأْجَرَ دَلِيلًا مُشْرِكًا عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْهِجْرَةِ‏.‏ وَقَدْ هَدَى اللَّهُ بِهِ الْعَالَمِينَ، وَعَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَكَانَ يَدَّخِرُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَةٍ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ‏.‏ وَكَانَ إِذَا سَافَرَ فِي جِهَادٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ حَمَلَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ أُولُو التَّوَكُّلِ حَقًّا‏.‏

وَأَكْمَلُ الْمُتَوَكِّلِينَ بَعْدَهُمْ هُوَ مَنِ اشْتَمَّ رَائِحَةَ تَوَكُّلِهِمْ مِنْ مَسِيرَةٍ بَعِيدَةٍ، أَوْ لَحِقَ أَثَرًا مِنْ غُبَارِهِمْ‏.‏ فَحَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالُ أَصْحَابِهِ مَحَكُّ الْأَحْوَالِ وَمِيزَانُهَا‏.‏ بِهَا يُعْلَمُ صَحِيحُهَا مِنْ سَقِيمِهَا‏.‏ فَإِنَّ هِمَمَهُمْ كَانَتْ فِي التَّوَكُّلِ أَعْلَى مِنْ هِمَمِ مَنْ بَعْدَهُمْ‏.‏ فَإِنَّ تَوَكُّلَهُمْ كَانَ فِي فَتْحِ بَصَائِرِ الْقُلُوبِ‏.‏ وَأَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَأَنْ يُوَحِّدَهُ جَمِيعُ الْعِبَادِ، وَأَنْ تُشْرِقَ شُمُوسُ الدِّينِ الْحَقِّ عَلَى قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَمَلَئُوا بِذَلِكَ التَّوَكُّلِ الْقُلُوبَ هُدًى وَإِيمَانًا‏.‏ وَفَتَحُوا بِلَادَ الْكُفْرِ وَجَعَلُوهَا دَارَ إِيمَانٍ‏.‏ وَهَبَّتْ رِيَاحُ رَوْحِ نَسَمَاتِ التَّوَكُّلِ عَلَى قُلُوبِ أَتْبَاعِهِمْ فَمَلَأَتْهَا يَقِينًا وَإِيمَانًا‏.‏ فَكَانَتْ هِمَمُ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَصْرِفَ أَحَدُهُمْ قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ وَاعْتِمَادِهِ عَلَى اللَّهِ فِي شَيْءٍ يَحْصُلُ بِأَدْنَى حِيلَةٍ وَسَعْيٍ، فَيَجْعَلُهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَيَحْمِلُ عَلَيْهِ قُوَى تَوَكُّلِهِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَقَمْعًا لِشَرَفِ النَّفْسِ‏.‏ يُرِيدُ أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ قَدْ يَكُونُ مُتَسَبِّبًا بِالْوِلَايَاتِ الشَّرِيفَةِ فِي الْعِبَادَةِ، أَوِ التِّجَارَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَالْأَسْبَابِ الَّتِي لَهُ بِهَا جَاهٌ وَشَرَفٌ فِي النَّاسِ‏.‏ فَإِذَا تَرَكَهَا يَكُونُ تَرْكُهَا قَمْعًا لِشَرَفِ نَفْسِهِ، وَإِيثَارًا لِلتَّوَاضُعِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَتَفَرُّغًا لِحِفْظِ الْوَاجِبَاتِ؛ أَيْ يَتَفَرَّغُ بِتَرْكِهَا لِحِفْظِ وَاجِبَاتِهَا الَّتِي تُزَاحِمُهَا تِلْكَ الْأَسْبَابُ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ التَّوَكُّلُ مَعَ مَعْرِفَةِ التَّوَكُّلِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ التَّوَكُّلُ مَعَ مَعْرِفَةِ التَّوَكُّلِ، النَّازِعَةِ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْ عِلَّةِ التَّوَكُّلِ‏.‏ وَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مِلْكَةَ الْحَقِّ تَعَالَى لِلْأَشْيَاءِ هِيَ مِلْكَةُ عَزَّةٍ‏.‏ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا مُشَارِكٌ‏.‏ فَيَكِلُ شَرِكَتَهُ إِلَيْهِ‏.‏ فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْعُبُودِيَّةِ‏:‏ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ هُوَ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ وَحْدَهُ‏.‏

يُرِيدُ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مَتَى قَطَعَ الْأَسْبَابَ وَالطَّلَبَ، وَتَعَدَّى تَيْنِكَ الدَّرَجَتَيْنِ، فَتَوَكُّلُهُ فَوْقَ تَوَكُّلِ مَنْ قَبْلَهُ‏.‏ وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِحَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ، وَأَنَّهُ دُونَ مَقَامِهِ، فَتَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِهِ وَبِحَقِيقَتِهِ نَازِعَةً- أَيْ بَاعِثَةً وَدَاعِيَةً- إِلَى تَخَلُّصِهِ مِنْ عِلَّةِ التَّوَكُّلِ، أَيْ لَا يَعْرِفُ عِلَّةَ التَّوَكُّلِ حَتَّى يَعْرِفَ حَقِيقَتَهُ‏.‏ فَحِينَئِذٍ يَعْرِفُ التَّوَكُّلَ الْمَعْرِفَةَ الَّتِي تَدْعُوهُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْ عِلَّتِهِ‏.‏

ثُمَّ بَيَّنَ الْمَعْرِفَةَ الَّتِي يَعْلَمُ بِهَا عِلَّةَ التَّوَكُّلِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مِلْكَةَ الْحَقِّ لِلْأَشْيَاءِ مَلِكَةُ عَزَّةٍ؛ أَيْ مِلْكَةُ امْتِنَاعٍ وَقُوَّةٍ وَقَهْرٍ، تَمْنَعُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي مُلْكِهِ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ مُشَارِكٌ‏.‏ فَهُوَ الْعَزِيزُ فِي مُلْكِهِ، الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِي ذَرَّةٍ مِنْهُ‏.‏ كَمَا هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِعِزَّتِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا مُشَارِكٌ‏.‏

فَالْمُتَوَكِّلُ يَرَى أَنَّ لَهُ شَيْئًا قَدْ وَكَّلَ الْحَقَّ فِيهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ صَارَ وَكَيْلَهُ عَلَيْهِ‏.‏ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ؛ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَمْرِ مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ‏.‏ فَلِهَذَا قَالَ‏:‏ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مُشَارِكٌ‏.‏ فَيَكِلُ شَرِكَتَهُ إِلَيْهِ‏.‏ فَلِسَانُ الْحَالِ يَقُولُ لِمَنْ جَعَلَ الرَّبَّ تَعَالَى وَكِيلَهُ‏:‏ فِي مَاذَا وَكَّلْتُ رَبَّكَ‏؟‏ أَفِيمَا هُوَ لَهُ وَحْدَهُ‏؟‏ أَوْ لَكَ وَحْدَكَ‏؟‏ أَوْ بَيْنَكُمَا‏؟‏ فَالثَّانِي وَالثَّالِثُ مُمْتَنِعٌ بِتَفَرُّدِهِ بِالْمُلْكِ وَحْدَهُ‏.‏ وَالتَّوْكِيلُ فِي الْأَوَّلِ مُمْتَنِعٌ، فَكَيْفَ تُوَكِّلُهُ فِيمَا لَيْسَ لَكَ مِنْهُ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ‏؟‏‏.‏

فَيُقَالُ‏:‏ هَاهُنَا أَمْرَانِ‏:‏ تَوَكُّلٌ، وَتَوْكِيلٌ‏.‏ فَالتَّوَكُّلُ‏:‏ مَحْضُ الِاعْتِمَادِ وَالثِّقَةِ وَالسُّكُونِ إِلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ كُلُّهُ‏.‏ وَعِلْمُ الْعَبْدُ بِتَفَرُّدِ الْحَقِّ تَعَالَى وَحْدَهُ بِمِلْكِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُشَارِكٌ فِي ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْكَوْنِ‏:‏ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ تَوَكُّلِهِ، وَأَعْظَمِ دَوَاعِيهِ‏.‏

فَإِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً‏.‏ وَبَاشَرَ قَلْبَهُ حَالًا‏:‏ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ اعْتِمَادِ قَلْبِهِ عَلَى الْحَقِّ وَحْدَهُ، وَثِقَتِهِ بِهِ، وَسُكُونِهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، وَطُمَأْنِينَتِهِ بِهِ وَحْدَهُ، لِعِلْمِهِ أَنَّ حَاجَاتِهِ وَفَاقَاتِهِ وَضَرُورَاتِهِ، وَجَمِيعَ مَصَالِحِهِ كُلِّهَا‏:‏ بِيَدِهِ وَحْدَهُ‏.‏ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ‏.‏ فَأَيْنَ يَجِدُ قَلْبَهُ مَنَاصًا مِنَ التَّوَكُّلِ بَعْدَ هَذَا‏؟‏

فَعِلَّةُ التَّوَكُّلِ حِينَئِدٍ‏:‏ الْتِفَاتُ قَلْبِهِ إِلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ شِرْكَةً فِي مُلْكِ الْحَقِّ‏.‏ وَلَا يَمْلِكُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ‏.‏ هَذِهِ عِلَّةُ تَوَكُّلِهِ‏.‏ فَهُوَ يَعْمَلُ عَلَى تَخْلِيصِ تَوَكُّلِهِ مِنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ‏.‏

نَعَمْ، وَمِنْ عِلَّةٍ أُخْرَى‏.‏ وَهِيَ رُؤْيَةُ تَوَكُّلِهِ‏.‏ فَإِنَّهُ الْتِفَاتٌ إِلَى عَوَالِمِ نَفْسِهِ‏.‏

وَعِلَّةٌ ثَالِثَةٌ‏:‏ وَهِيَ صَرْفُهُ قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِهِ أَحَبِّ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ‏.‏

فَهَذِهِ الْعِلَلُ الثَّلَاثُ‏:‏ هِيَ عِلَلُ التَّوْكِيلِ‏.‏

وَأَمَّا التَّوَكُّلُ‏:‏ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِلَّا مُجَرَّدَ التَّفْوِيضِ‏.‏ وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ‏.‏ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفَسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ‏:‏ ‏{‏وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ‏}‏ فَكَانَ جَزَاءُ هَذَا التَّفْوِيضِ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا‏}‏، فَإِنْ كَانَ التَّوَكُّلُ مَعْلُولًا بِمَا ذَكَرَهُ، فَالتَّفْوِيضُ أَيْضًا كَذَلِكَ‏.‏ وَلَيْسَ فَلَيْسَ‏.‏

وَلَوْلَا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا عَدَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَتْرُوكٌ، وَهُوَ عُرْضَةُ الْوَهْمِ وَالْخَطَإِ، لَمَا اعْتَرَضْنَا عَلَى مَنْ لَا نَلْحَقُ غُبَارَهُمْ، وَلَا نَجْرِي مَعَهُمْ فِي مِضْمَارِهِمْ، وَنَرَاهُمْ فَوْقَنَا فِي مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ، وَمَنَازِلِ السَّائِرِينَ، كَالنُّجُومِ الدَّرَارِيِّ‏.‏ وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيُرْشِدْنَا إِلَيْهِ‏.‏ وَمَنْ رَأَى فِي كَلَامِنَا زَيْغًا، أَوْ نَقْصًا وَخَطَأً، فَلْيَهْدِ إِلَيْنَا الصَّوَابَ‏.‏ نَشْكُرُ لَهُ سَعْيَهُ‏.‏ وَنُقَابِلُهُ بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ وَالِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ التَّفْوِيضِ

وَمِنْ مَنَازِلِ‏:‏‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ التَّفْوِيضِ‏.‏

قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏‏:‏

وَهُوَ أَلْطَفُ إِشَارَةً، وَأَوْسَعُ مَعْنًى مِنَ التَّوَكُّلِ، فَإِنَّ التَّوَكُّلَ بَعْدَ وُقُوعِ السَّبَبِ، وَالتَّفْوِيضُ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَبَعْدَهُ‏.‏ وَهُوَ عَيْنُ الِاسْتِسْلَامِ‏.‏ وَالتَّوَكُّلُ شُعْبَةٌ مِنْهُ‏.‏

يَعْنِي أَنَّ الْمُفَوِّضَ يَتَبَرَّأُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَيُفَوِّضُ الْأَمْرَ إِلَى صَاحِبِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقِيمَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي مَصَالِحِهِ‏.‏ بِخِلَافَ التَّوَكُّلِ‏.‏ فَإِنَّ الْوِكَالَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَقُومَ الْوَكِيلُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ‏.‏

فَالتَّفْوِيضُ‏:‏ بَرَاءَةٌ وَخُرُوجٌ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَتَسْلِيمُ الْأَمْرِ كُلِّهِ إِلَى مَالِكِهِ‏.‏

فَيُقَالُ‏:‏ وَكَذَلِكَ التَّوَكُّلُ أَيْضًا‏.‏ وَمَا قَدَحْتُمْ بِهِ فِي التَّوَكُّلِ يَرِدُ عَلَيْكُمْ نَظِيرُهُ فِي التَّفْوِيضِ سَوَاءٌ‏.‏ فَإِنَّكَ كَيْفَ تُفَوِّضُ شَيْئًا لَا تَمْلِكُهُ الْبَتَّةَ إِلَى مَالِكِهِ‏؟‏ وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُفَوِّضَ وَاحِدٌ مِنْ آحَادِ الرَّعِيَّةِ الْمُلْكَ إِلَى مَلِكِ زَمَانِهِ‏؟‏

فَالْعِلَّةُ إِذَنْ فِي التَّفْوِيضِ أَعْظَمُ مِنْهَا فِي التَّوَكُّلِ‏.‏ بَلْ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ‏:‏ التَّوَكُّلُ فَوْقَ التَّفْوِيضِ وَأَجَلُّ مِنْهُ وَأَرْفَعُ، لَكَانَ مُصِيبًا‏.‏ وَلِهَذَا كَانَ الْقُرْآنُ مَمْلُوءًا بِهِ أَمْرًا، وَإِخْبَارًا عَنْ خَاصَّةِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَصَفْوَةِ الْمُؤْمِنِينَ، بِأَنَّ حَالَهُمُ التَّوَكُّلُ‏.‏ وَأَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَسَمَّاهُ الْمُتَوَكِّلَ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ‏:‏ قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، سَمَّيْتُهُ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ‏.‏

وَأَخْبَرَ عَنْ رُسُلِهِ بِأَنَّ حَالَهُمْ كَانَ التَّوَكُّلَ‏.‏ وَبِهِ انْتَصَرُوا عَلَى قَوْمِهِمْ‏.‏ وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ أَنَّهُمْ أَهْلُ مَقَامِ التَّوَكُّلِ‏.‏

وَلَمْ يَجِئِ التَّفْوِيضُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِيمَا حَكَاهُ عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ‏}‏‏.‏ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَتَّخِذَهُ وَكِيلًا‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا‏}‏‏.‏

وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ جَهَلَةِ الْقَوْمِ‏:‏ إِنَّ تَوْكِيلَ الرَّبِّ فِيهِ جَسَارَةٌ عَلَى الْبَارِّي؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ يَقْتَضِي إِقَامَةَ الْوَكِيلِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ‏.‏ وَذَلِكَ عَيْنُ الْجَسَارَةِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ ذَلِكَ وَنَدَبَ إِلَيْهِ‏:‏ لَمَا جَازَ لِلْعَبْدِ تَعَاطِيهِ‏.‏

وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ‏.‏ فَإِنَّ اتِّخَاذَهُ وَكِيلًا هُوَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ، وَخَالِصُ التَّوْحِيدِ، إِذَا قَامَ بِهِ صَاحِبُهُ حَقِيقَةً‏.‏

وَلِلَّهِ دَرُّ سَيِّدِ الْقَوْمِ، وَشَيْخِ الطَّائِفَةِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ؛ إِذْ يَقُولُ‏:‏ الْعِلْمُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ التَّعَبُّدِ‏.‏ وَالتَّعَبُّدُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ الْوَرَعِ‏.‏ وَالْوَرَعُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ الزُّهْدِ، وَالزُّهْدُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ التَّوَكُّلِ‏.‏

فَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ‏:‏ أَنَّ التَّوَكُّلَ أَوْسَعُ مِنَ التَّفْوِيضِ، وَأَعْلَى وَأَرْفَعُ‏.‏

‏[‏التَّفْوِيضُ أَعَمُّ مِنَ التَّوَكُّلِ‏]‏

قَوْلُهُ‏:‏ فَإِنَّ التَّوَكُّلَ بَعْدَ وُقُوعِ السَّبَبِ، وَالتَّفْوِيضِ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَبَعْدَهُ‏.‏

يَعْنِي بِالسَّبَبِ‏:‏ الِاكْتِسَابَ‏.‏ فَالْمُفَوَّضُ قَدْ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ اكْتِسَابِهِ وَبَعْدَهُ‏.‏ وَالْمُتَوَكِّلُ قَدْ قَامَ بِالسَّبَبِ‏.‏ وَتَوَكَّلَ فِيهِ عَلَى اللَّهِ‏.‏ فَصَارَ التَّفْوِيضُ أَوْسَعُ مِنَ التَّوَكُّلِ‏.‏

فَيُقَالُ‏:‏ وَالتَّوَكُّلُ قَدْ يَكُونُ قَبْلَ السَّبَبِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ‏.‏ فَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُقِيمَهُ فِي سَبَبٍ يُوَصِّلُهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ‏.‏ فَإِذَا قَامَ بِهِ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ حَالَ مُبَاشَرَتِهِ‏.‏ فَإِذَا أَتَمَّهُ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ ثَمَرَاتِهِ‏.‏ فَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَهُ، وَمَعَهُ، وَبَعْدَهُ‏.‏

فَعَلَى هَذَا‏:‏ هُوَ أَوْسَعُ مِنَ التَّفْوِيضِ عَلَى مَا ذَكَرَ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَهُوَ عَيْنُ الِاسْتِسْلَامِ؛ أَيِ التَّفْوِيضُ عَيْنُ الِانْقِيَادِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ‏.‏ وَلَا يُبَالِي أَكَانَ مَا يَقْضِي لَهُ الْخَيْرَ‏.‏ أَمْ خِلَافَهُ‏؟‏ وَالْمُتَوَكِّلُ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي مَصَالِحِهِ‏.‏

وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي لَحَظَهُ الْقَوْمُ فِي هَضْمِ مَقَامِ التَّوَكُّلِ، وَرَفَعِ مَقَامِ التَّفْوِيضِ عَلَيْهِ‏.‏

وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ الْمُفَوِّضَ لَا يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا لِإِرَادَتِهِ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ‏.‏ وَإِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ لَهُ خِلَافَ مَا يَظُنُّهُ خَيْرًا‏.‏ فَهُوَ رَاضٍ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ‏.‏ وَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ‏.‏ وَهَكَذَا حَالُ الْمُتَوَكِّلِ سَوَاءٌ، بَلْ هُوَ أَرْفَعُ مِنَ الْمُفَوِّضِ؛ لِأَنَّ مَعَهُ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ مَا لَيْسَ مَعَ الْمُفَوِّضِ‏.‏ فَإِنَّ الْمُتَوَكِّلَ مُفَوِّضٌ وَزِيَادَةٌ‏.‏ فَلَا يَسْتَقِيمُ مَقَامَ التَّوَكُّلِ إِلَّا بِالتَّفْوِيضِ‏.‏ فَإِنَّهُ إِذَا فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ اعْتَمَدَ بِقَلْبِهِ كُلِّهِ عَلَيْهِ بَعْدَ تَفْوِيضِهِ‏.‏

وَنَظِيرُ هَذَا‏:‏ أَنَّ مَنْ فَوَّضَ أَمَرَهُ إِلَى رَجُلٍ، وَجَعَلَهُ إِلَيْهِ‏.‏ فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ- بَعْدَ تَفْوِيضِهِ- اعْتِمَادًا خَاصًّا، وَسُكُونًا وَطُمَأْنِينَةً إِلَى الْمُفَوَّضِ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ قَبْلَ التَّفْوِيضِ‏.‏ وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ‏.‏

الْوَجْهُ الثَّانِي‏:‏ أَنَّ أَهَمَّ مَصَالِحِ الْمُتَوَكِّلِ‏:‏ حُصُولُ مَرَاضِي مَحْبُوبِهِ وَمَحَابِّهِ‏.‏ فَهُوَ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي تَحْصِيلِهَا لَهُ‏.‏ فَأَيُّ مَصْلَحَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ‏؟‏

وَأَمَّا التَّفْوِيضُ‏:‏ فَهُوَ تَفْوِيضُ حَاجَاتِ الْعَبْدِ الْمَعِيشِيَّةِ وَأَسْبَابِهَا إِلَى اللَّهِ‏.‏ فَإِنَّهُ لَا يُفَوِّضُ إِلَيْهِ مَحَابَّهُ‏.‏ وَالْمُتَوَكِّلُ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي مَحَابِّهِ‏.‏

وَالْوَهْمُ إِنَّمَا دَخَلَ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ الظَّانُّ‏:‏ أَنَّ التَّوَكُّلَ مَقْصُورٌ عَلَى مَعْلُومِ الرِّزْقِ، وَقُوَّةِ الْبَدَنِ، وَصِحَّةِ الْجِسْمِ‏.‏ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا التَّوَكُّلَ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّوَكُّلِ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ‏.‏

‏[‏دَرَجَاتُ التَّفْوِيضِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ قَبْلَ عَمَلِهِ اسْتِطَاعَةً‏]‏ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ التَّفْوِيضُ‏:‏ الْأُولَى‏:‏ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ قَبْلَ عَمَلِهِ اسْتِطَاعَةً‏.‏ فَلَا يَأْمَنُ مِنْ مَكْرٍ، وَلَا يَيْأَسُ مِنْ مَعُونَةٍ، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَى نِيَّةٍ‏.‏

أَيْ يَتَحَقَّقُ أَنَّ اسْتِطَاعَتَهُ بِيَدِ اللَّهِ، لَا بِيَدِهِ، فَهُوَ مَالِكُهَا دُونَهُ‏.‏ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُعْطِهِ الِاسْتِطَاعَةَ فَهُوَ عَاجِزٌ‏.‏ فَهُوَ لَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا بِاللَّهِ، لَا بِنَفْسِهِ‏.‏ فَكَيْفَ يَأْمَنُ الْمَكْرَ، وَهُوَ مُحَرَّكٌ لَا مُحَرِّكٌ‏؟‏ يُحَرِّكُهُ مَنْ حَرَكَتُهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ شَاءَ ثَبَّطَهُ وَأَقْعَدَهُ مَعَ الْقَاعِدِينَ‏.‏

كَمَا قَالَ فِيمَنْ مَنَعَهُ هَذَا التَّوْفِيقَ‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ‏}‏‏.‏

فَهَذَا مَكْرُ اللَّهِ بِالْعَبْدِ‏:‏ أَنْ يَقْطَعَ عَنْهُ مَوَادَّ تَوْفِيقِهِ‏.‏ وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَلَا يَبْعَثَ دَوَاعِيهِ، وَلَا يُحَرِّكَهُ إِلَى مِرَاضَيْهِ وَمَحَابِّهِ‏.‏ وَلَيْسَ هَذَا حَقًّا عَلَى اللَّهِ‏.‏ فَيَكُونُ ظَالِمًا بِمَنْعِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا‏.‏ بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ فَضْلِهِ الَّذِي يُحْمَدُ عَلَى بَذْلِهِ لِمَنْ بَذَلَهُ، وَعَلَى مَنْعِهِ لِمَنْ مَنْعَهُ إِيَّاهُ‏.‏ فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى هَذَا وَهَذَا‏.‏

وَمَنْ فَهِمَ هَذَا فَهِمَ بَابًا عَظِيمًا مِنْ سِرِّ الْقَدَرِ، وَانْجَلَتْ لَهُ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ‏.‏ فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُرِيدُ مِنْ نَفْسِهِ فِعْلًا يَفْعَلُهُ بِعَبْدِهِ يَقَعُ مِنْهُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ‏.‏ فَيَمْنَعُهُ فِعْلَ نَفْسِهِ بِهِ، وَهُوَ تَوْفِيقُهُ؛ لِأَنَّهُ يَكْرَهُهُ، وَيَقْهَرُهُ عَلَى فِعْلِ مَسَاخِطِهِ، بَلْ يَكِلُهُ إِلَى نَفْسِهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَيَتَخَلَّى عَنْهُ‏.‏ فَهَذَا هُوَ الْمَكْرُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَلَا يَيْأَسُ مِنْ مَعُونَةٍ، يَعْنِي إِذَا كَانَ الْمُحَرِّكُ لَهُ هُوَ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ‏.‏ وَهُوَ أَقْدَرُ الْقَادِرِينَ‏.‏ وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِخَلْقِهِ وَرِزْقِهِ‏.‏ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏.‏ فَكَيْفَ يَيْأَسُ مِنْ مَعُونَتِهِ لَهُ‏؟‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَلَا يُعَوِّلُ عَلَى نِيَّةٍ، أَيْ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى نِيَّتِهِ وَعَزْمِهِ، وَيَثِقُ بِهَا‏.‏ فَإِنَّ نِيَّتَهُ وَعَزْمَهُ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِيَدِهِ‏.‏ وَهِيَ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَيْهِ‏.‏ فَلْتَكُنْ ثِقَتُهُ بِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ حَقًّا، لَا بِمَنْ هِيَ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ مُعَايَنَةُ الِاضْطِرَارِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ مُعَايَنَةُ الِاضْطِرَارِ‏.‏ فَلَا يَرَى عَمَلًا مُنْجِيًا، وَلَا ذَنْبًا مُهْلِكًا، وَلَا سَبَبًا حَامِلًا‏.‏

أَيْ يُعَايِنُ فَقْرَهُ وَفَاقَتَهُ وَضَرُورَتَهُ التَّامَّةَ إِلَى اللَّهِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ يَرَى فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ ضَرُورَةً، وَفَاقَةً تَامَّةً إِلَى اللَّهِ‏.‏ فَنَجَاتُهُ إِنَّمَا هِيَ بِاللَّهِ لَا بِعَمَلِهِ‏.‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ وَلَا ذَنْبًا مُهْلِكًا، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ‏:‏ أَنَّ هَلَاكَهُ بِاللَّهِ لَا بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ‏:‏ فَبَاطِلٌ، مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ‏.‏ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ‏:‏ أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَسَعَتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ، وَمُشَاهَدَةَ شِدَّةِ ضَرُورَتِهِ وَفَاقَتِهِ إِلَيْهِ يُوجِبُ لَهُ أَنْ لَا يَرَى ذَنْبًا مُهْلِكًا، فَإِنَّ افْتِقَارَهُ وَفَاقَتَهُ وَضَرُورَتَهُ تَمْنَعُهُ مِنَ الْهَلَاكِ بِذُنُوبِهِ، بَلْ تَمْنَعُهُ مِنَ اقْتِحَامِ الذُّنُوبِ الْمُهْلِكَةِ؛ إِذْ صَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ لَا يُصِرُّ عَلَى ذُنُوبٍ تُهْلِكُهُ‏.‏ وَهَذَا حَالُهُ- فَهَذَا حَقٌّ‏.‏ وَهُوَ مِنْ مَشَاهِدِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَلَا سَبَبًا حَامِلًا‏.‏ أَيْ‏:‏ يَشْهَدُ أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ هُوَ الْحَقُّ تَعَالَى، لَا الْأَسْبَابُ الَّتِي يَقُومُ بِهَا‏.‏ فَإِنَّهُ وَإِيَّاهَا مَحْمُولَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ شُهُودُ انْفِرَادِ الْحَقِّ بِمِلْكِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ شُهُودُ انْفِرَادِ الْحَقِّ بِمِلْكِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِتَصْرِيفِ التَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ‏.‏

هَذِهِ الدَّرَجَةُ تَتَعَلَّقُ بِشُهُودِ وَصْفِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَشَأْنِهِ‏.‏ وَالَّتِي قَبْلَهَا تَتَعَلَّقُ بِشُهُودِ حَالِ الْعَبْدِ وَوَصْفِهِ‏.‏ أَيْ يَشْهَدُ حَرَكَاتِ الْعَالَمِ وَسُكُونَهُ صَادِرَةً عَنِ الْحَقِّ تَعَالَى فِي كُلِّ مُتَحَرِّكٍ وَسَاكِنٍ، فَيَشْهَدُ تَعَلُّقَ الْحَرَكَةِ بِاسْمِهِ الْبَاسِطِ وَتَعَلُّقَ السُّكُونِ بِاسْمِهِ الْقَابِضِ فَيَشْهَدُ تَفَرُّدَهُ سُبْحَانَهُ بِالْبَسْطِ وَالْقَبْضِ‏.‏

وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُ بِتَصْرِيفِ التَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ فَأَنْ يَكُونَ الْمُشَاهِدُ عَارِفًا بِمَوَاضِعِ التَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ‏.‏ وَالْمُرَادُ بِالتَّفْرِقَةِ‏:‏ نَظَرُ الِاعْتِبَارِ، وَنِسْبَةُ الْأَفْعَالِ إِلَى الْخَلْقِ‏.‏

وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ‏:‏ شُهُودُ الْأَفْعَالِ مَنْسُوبَةً إِلَى مُوجِدِهَا الْحَقِّ تَعَالَى‏.‏

وَقَدْ يُرِيدُونَ بِالتَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ مَعْنًى وَرَاءَ هَذَا الشُّهُودِ‏.‏ وَهُوَ حَالُ التَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ‏.‏

فَحَالُ التَّفْرِقَةِ‏:‏ تَفَرُّقُ الْقَلْبِ فِي أَوْدِيَةِ الْإِرَادَاتِ وَشِعَابِهَا‏.‏ وَحَالُ الْجَمْعِ‏:‏ جَمْعِيَّتُهُ عَلَى مُرَادِ الْحَقِّ وَحْدَهُ‏.‏ فَالْأَوَّلُ‏:‏ عِلْمُ التَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ حَالُهُمَا‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى

وَمِنْ مَنَازِلِ‏:‏‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى‏.‏

قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏‏:‏

الثِّقَةُ‏:‏ سَوَادُ عَيْنِ التَّوَكُّلِ‏.‏ وَنُقْطَةُ دَائِرَةِ التَّفْوِيضِ‏.‏ وَسُوَيْدَاءُ قَلْبِ التَّسْلِيمِ‏.‏

وَصَدَّرَ الْبَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِأُمِّ مُوسَى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي‏}‏‏.‏ فَإِنَّ فِعْلَهَا هَذَا هُوَ عَيْنُ ثِقَتِهَا بِاللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَوْلَا كَمَالُ ثِقَتِهَا بِرَبِّهَا لَمَا أَلْقَتْ بِوَلَدِهَا وَفِلْذَةِ كَبِدِهَا فِي تَيَّارِ الْمَاءِ، تَتَلَاعَبُ بِهِ أَمْوَاجُهُ، وَجَرْيَاتُهُ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي أَوْ يَقِفُ‏.‏

وَمُرَادُهُ‏:‏ أَنَّ الثِّقَةَ خُلَاصَةُ التَّوَكُّلِ وَلُبُّهُ، كَمَا أَنَّ سَوَادَ الْعَيْنِ‏:‏ أَشْرَفُ مَا فِي الْعَيْنِ‏.‏

وَأَشَارَ بِأَنَّهُ نُقْطَةُ دَائِرَةِ التَّفْوِيضِ إِلَى أَنَّ مَدَارَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي وَسَطِهِ كَحَالِ النُّقْطَةِ مِنَ الدَّائِرَةِ‏.‏ فَإِنَّ النُّقْطَةَ هِيَ الْمُرَكَّزُ الَّذِي عَلَيْهِ اسْتِدَارَةُ الْمُحِيطِ، وَنِسْبَةُ جِهَاتِ الْمُحِيطِ إِلَيْهَا نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُحِيطِ مُقَابِلٌ لَهَا‏.‏ كَذَلِكَ الثِّقَةُ هِيَ النُّقْطَةُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا التَّفْوِيضُ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ سُوَيْدَاءُ قَلْبِ التَّسْلِيمِ‏.‏ فَإِنَّ الْقَلْبَ أَشْرَفُ مَا فِيهِ سُوَيْدَاؤُهُ، وَهِيَ الْمُهْجَةُ الَّتِي تَكُونُ بِهَا الْحَيَاةُ، وَهِيَ فِي وَسَطِهِ‏.‏ فَلَوْ كَانَ التَّفْوِيضُ قَلْبًا لَكَانَتِ الثِّقَةُ سُوَيْدَاءَهُ‏.‏ وَلَوْ كَانَ عَيْنًا لَكَانَتْ سَوَادَهَا‏.‏ وَلَوْ كَانَ دَائِرَةً لَكَانَتْ نُقْطَتَهَا‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُفَسِّرُ التَّوَكُّلَ بِالثِّقَةِ‏.‏ وَيَجْعَلُهُ حَقِيقَتَهَا‏.‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالتَّفْوِيضِ‏.‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالتَّسْلِيمِ‏.‏

فَعَلِمْتُ أَنَّ مَقَامَ التَّوَكُّلِ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ‏.‏

فَكَأَنَّ الثِّقَةَ عِنْدَ الشَّيْخِ هِيَ رُوحٌ، وَالتَّوَكُّلَ كَالْبَدَنِ الْحَامِلِ لَهَا، وَنِسْبَتَهَا إِلَى التَّوَكُّلِ كَنِسْبَةِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْإِيمَانِ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏دَرَجَاتُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى دَرَجَةُ الْإِيَاسِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الثِّقَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى‏:‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ دَرَجَةُ الْإِيَاسِ‏.‏ وَهُوَ إِيَاسُ الْعَبْدِ عَنْ مُقَاوَمَاتِ الْأَحْكَامِ‏.‏ لِيَقْعُدَ عَنْ مُنَازَعَةِ الْأَقْسَامِ، لِيَتَخَلَّصَ مِنْ قِحَةِ الْإِقْدَامِ‏.‏

يَعْنِي أَنَّ الْوَاثِقَ بِاللَّهِ لِاعْتِقَادِهِ‏:‏ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَكَمَ بِحُكْمٍ وَقَضَى أَمْرًا‏.‏ فَلَا مَرَدَّ لِقَضَائِهِ‏.‏ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ‏.‏ فَمَنْ حَكَمَ اللَّهُ لَهُ بِحُكْمٍ، وَقَسَمَ لَهُ بِنَصِيبٍ مِنَ الرِّزْقِ، أَوِ الطَّاعَةِ أَوِ الْحَالِ، أَوِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ‏:‏ فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهِ لَهُ‏.‏ وَمَنْ لَمْ يَقْسِمْ لَهُ ذَلِكَ‏:‏ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ‏.‏ كَمَا لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الطَّيَرَانِ إِلَى السَّمَاءِ، وَحَمْلِ الْجِبَالِ- فَبِهَذَا الْقَدْرِ يَقْعُدُ عَنْ مُنَازَعَةِ الْأَقْسَامِ‏.‏ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْهَا فَسَوْفَ يَأْتِيهِ عَلَى ضَعْفِهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا فَلَنْ يَنَالَهُ بِقُوَّتِهِ‏.‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ‏:‏ مُقَاوَمَةُ الْأَحْكَامِ وَمُنَازَعَةُ الْأَقْسَامِ، أَنَّ مُقَاوَمَةَ الْأَحْكَامِ‏:‏ أَنْ تَتَعَلَّقَ إِرَادَتُهُ بِعَيْنِ مَا فِي حُكْمِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ‏.‏ فَإِذَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِذَلِكَ جَاذَبَ الْخَلْقَ الْأَقْسَامَ وَنَازَعَهُمْ فِيهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ يَتَخَلَّصُ مِنْ قِحَةِ الْإِقْدَامِ؛ أَيْ يَتَخَلَّصُ بِالثِّقَةِ بِاللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْقِحَةِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى إِقْدَامِهِ عَلَى مَا لَمْ يَحْكُمْ لَهُ بِهِ وَلَا قَسَمَ لَهُ‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ دَرَجَةُ الْأَمْنِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ دَرَجَةُ الْأَمْنِ‏.‏ وَهُوَ أَمْنُ الْعَبْدِ مِنْ فَوْتِ الْمَقْدُورِ‏.‏ وَانْتِقَاضِ الْمَسْطُورِ‏.‏ فَيَظْفَرُ بِرَوْحِ الرِّضَا، وَإِلَّا فَبِعَيْنِ الْيَقِينِ‏.‏ وَإِلَّا فَبِلُطْفِ الصَّبْرِ‏.‏

يَقُولُ‏:‏ مَنْ حَصَلَ لَهُ الْإِيَاسُ الْمَذْكُورُ حَصَلَ لَهُ الْأَمْنُ‏.‏ وَذَلِكَ‏:‏ أَنَّ مِنْ تَحَقَّقَ بِمُعَرَّفَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ مَا قَضَاهُ اللَّهُ فَلَا مَرَدَّ لَهُ الْبَتَّةَ‏:‏ أَمِنَ مِنْ فَوْتِ نَصِيبِهِ الَّذِي قَسَمَهُ اللَّهُ لَهُ‏.‏ وَأَمِنَ أَيْضًا مِنْ نُقْصَانِ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُ، وَسَطَّرَهُ فِي الْكِتَابِ الْمَسْطُورِ‏.‏ فَيَظْفَرُ بِرَوْحِ الرِّضَا، أَيْ بِرَاحَتِهِ وَلَذَّتِهِ وَنَعِيمِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الرِّضَا فِي رَاحَةٍ وَلَذَّةٍ وَسُرُورٍ‏.‏ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ- بِعَدْلِهِ وَقِسْطِهِ- جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضَا‏.‏ وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ‏.‏

فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْعَبْدُ عَلَى رَوْحِ الرِّضَا ظَفِرَ بِعَيْنِ الْيَقِينِ؛ وَهُوَ قُوَّةُ الْإِيمَانِ، وَمُبَاشَرَتُهُ لِلْقَلْبِ‏.‏ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِيَانِ إِلَّا كَشْفُ الْحِجَابِ الْمَانِعِ مِنْ مُكَافَحَةِ الْبَصَرِ‏.‏

فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الْمَقَامُ حَصَلَ عَلَى لُطْفِ الصَّبْرِ وَمَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ‏.‏ كَمَا فِي الْأَثَرِ الْمَعْرُوفِ‏:‏ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ‏.‏ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ النَّفْسُ خَيْرًا كَثِيرًا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مُعَايَنَةُ أَزَلِيَّةِ الْحَقِّ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ مُعَايَنَةُ أَزَلِيَّةِ الْحَقِّ‏.‏ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ مِحَنِ الْقُصُودِ، وَتَكَالِيفِ الْحِمَايَاتِ، وَالتَّعْرِيجِ عَلَى مَدَارِجِ الْوَسَائِلِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ مُعَايَنَةُ أَزَلِيَّةِ الْحَقِّ؛ أَيْ مَتَى شَهِدَ قَلْبُهُ تَفَرُّدَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْأَزَلِيَّةِ، غَابَ بِهَا عَنِ الطَّلَبِ، لِتَيَقُّنِهِ فَرَاغَ الرَّبِّ تَعَالَى مِنَ الْمَقَادِيرِ، وَسَبْقَ الْأَزَلِ بِهَا، وَثُبُوتِ حُكْمِهَا هُنَاكَ‏.‏ فَيَتَخَلَّصُ مِنَ الْمِحَنِ الَّتِي تُعْرَضُ لَهُ دُونَ الْمَقْصُودِ‏.‏ وَيَتَخَلَّصُ أَيْضًا مِنْ تَعْرِيجِهِ وَالْتِفَاتِهِ، وَحَبْسِ مَطِيَّتِهِ عَلَى طُرُقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى الْمَطَالِبِ‏.‏

وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ‏.‏ فَإِنَّ مَدَارِجَ الْوَسَائِلِ قِسْمَانِ‏:‏ وَسَائِلُ مُوصِلَةٌ إِلَى عَيْنِ الرِّضَا‏.‏ فَالتَّعْرِيجُ عَلَى مَدَارِجِهَا- مَعْرِفَةً وَعَمَلًا وَحَالًا وَإِيثَارًا- هُوَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏ وَلَكِنْ لَا يَجْعَلُ تَعْرِيجَهُ كُلَّهُ عَلَى مَدَارِجِهَا‏.‏ بِحَيْثُ يَنْسَى بِهَا الْغَايَةَ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ إِلَيْهَا‏.‏

وَأَمَّا تَخَلُّصُهُ مِنْ تَكَالِيفِ الْحِمَايَاتِ فَهُوَ تَخَلُّصُهُ مِنْ طَلَبِ مَا حَمَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَدَرًا‏.‏ فَلَا يَتَكَلَّفُ طَلَبَهُ وَقَدْ حُمِي عَنْهُ‏.‏

وَوَجْهٌ آخَرُ‏:‏ وَهُوَ أَنْ يَتَخَلَّصَ بِمُشَاهَدَةِ سَبْقِ الْأَزَلِيَّةِ مِنْ تَكَالِيفِ احْتِرَازَاتِهِ، وَشَدَّةِ احْتِمَائِهِ مِنَ الْمَكَارِهِ، لِعِلْمِهِ بِسَبْقِ الْأَزَلِ بِمَا كُتِبَ لَهُ مِنْهَا‏.‏ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَكَلُّفِ الِاحْتِمَاءِ‏.‏ نَعَمْ، يَحْتَمِي مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ، وَمَا لَا يَنْفَعُهُ فِي طَرِيقِهِ‏.‏ وَلَا يُعِينُهُ عَلَى الْوُصُولِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ التَّسْلِيمِ

وَمِنْ مَنَازِلِ‏:‏‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ التَّسْلِيمِ

وَهِيَ نَوْعَانِ‏:‏ تَسْلِيمٌ لِحُكْمِهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ‏.‏ وَتَسْلِيمٌ لِحُكْمِهِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ‏.‏

فَأَمَّا الْأَوَّلُ‏:‏ فَهُوَ تَسْلِيمُ الْمُؤْمِنِينَ الْعَارِفِينَ‏.‏ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏‏.‏

فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ‏:‏ التَّحْكِيمُ، وَسِعَةُ الصَّدْرِ بِانْتِفَاءِ الْحَرَجِ، وَالتَّسْلِيمُ‏.‏

وَأَمَّا التَّسْلِيمُ لِلْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ‏:‏ فَمَزَلَّةُ أَقْدَامٍ، وَمَضَلَّةُ أَفْهَامٍ‏.‏ حَيَّرَ الْأَنَامَ، وَأَوْقَعَ الْخِصَامَ‏.‏ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ‏.‏ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ‏.‏ وَبَيَّنَّا أَنَّ التَّسْلِيمَ لِلْقَضَاءِ يُحْمَدُ إِذَا لَمْ يُؤْمَرِ الْعَبْدُ بِمُنَازَعَتِهِ وَدَفْعِهِ‏.‏ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، كَالْمَصَائِبِ الَّتِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى دَفْعِهَا‏.‏

وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي أُمِرَ بِدَفْعِهَا‏:‏ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّسْلِيمُ إِلَيْهَا، بَلِ الْعُبُودِيَّةُ‏:‏ مُدَافَعَتُهَا بِأَحْكَامٍ أُخَرَ أَحَبِّ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏التَّسْلِيمُ الصَّادِرُ عَنِ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏‏:‏

وَفِي التَّسْلِيمِ وَالثِّقَةِ وَالتَّفْوِيضِ‏:‏ مَا فِي التَّوَكُّلِ مِنَ الْعِلَلِ‏.‏ وَهُوَ مِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ سُبُلِ الْعَامَّةِ‏.‏

يَعْنِي أَنَّ الْعِلَلَ الَّتِي فِي التَّوَكُّلِ مِنْ مَعَانِي الدَّعْوَى، وَنِسْبَتِهِ الشَّيْءَ إِلَى نَفْسِهِ أَوَّلًا، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ وَكَّلَ رَبَّهِ فِيهِ، وَتُوَكَّلَ عَلَيْهِ فِيهِ‏.‏ وَجَعَلَهُ وَكِيلَهُ، الْقَائِمَ عَنْهُ بِمَصَالِحِهِ الَّتِي كَانَ يُحَصِّلُهَا لِنَفْسِهِ بِالْأَسْبَابِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ‏.‏ وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِي ذَلِكَ‏.‏

وَلَيْسَ فِي التَّسْلِيمِ إِلَّا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ‏:‏ وَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ تَسْلِيمُهُ صَادِرًا عَنْ مَحْضِ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ، بَلْ يَشُوبُهُ كُرْهٌ وَانْقِبَاضٌ، فَيُسَلِّمُ عَلَى نَوْعِ إِغْمَاضٍ‏.‏ فَهَذِهِ عِلَّةُ التَّسْلِيمِ الْمُؤَثِّرَةِ‏.‏ فَاجْتَهِدْ فِي الْخَلَاصِ مِنْهَا‏.‏

وَإِنَّمَا كَانَ لِلْعَامَّةِ عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْخَاصَّةَ فِي شُغْلٍ عَنْهُ بِاسْتِغْرَاقِهِمْ بِالْفَنَاءِ فِي عَيْنِ الْجَمْعِ‏.‏ وَجَعْلُ الْفَنَاءِ غَايَةَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي عَيْنِ الْجَمْعِ‏:‏ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ مَا أَوْجَبَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

‏[‏دَرَجَاتُ التَّسْلِيمِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى تَسْلِيمُ مَا يُزَاحِمُ الْعُقُولَ مِمَّا سَبَقَ عَلَى الْأَوْهَامِ مِنَ الْغَيْبِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ التَّسْلِيمُ‏:‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ تَسْلِيمُ مَا يُزَاحِمُ الْعُقُولَ مِمَّا سَبَقَ عَلَى الْأَوْهَامِ مِنَ الْغَيْبِ، وَالْإِذْعَانُ لِمَا يُغَالِبُ الْقِيَاسَ مِنْ سَيْرِ الدُّوَلِ وَالْقِسَمِ، وَالْإِجَابَةِ لِمَا يُفْزِعُ الْمُرِيدَ مِنْ رُكُوبِ الْأَحْوَالِ‏.‏

اعْلَمْ أَنَّ التَّسْلِيمَ هُوَ الْخَلَاصُ مِنْ شُبْهَةِ تَعَارُضِ الْخَبَرِ، أَوْ شَهْوَةِ تَعَارُضِ الْأَمْرِ، أَوْ إِرَادَةِ تَعَارُضِ الْإِخْلَاصِ، أَوِ اعْتِرَاضٍ يُعَارِضُ الْقَدَرَ وَالشَّرْعَ‏.‏ وَصَاحِبُ هَذَا التَّخَلُّصِ‏:‏ هُوَ صَاحِبُ الْقَلْبِ السَّلِيمِ الَّذِي لَا يَنْجُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِهِ، فَإِنَّ التَّسْلِيمَ ضِدُّ الْمُنَازَعَةِ‏.‏

وَالْمُنَازَعَةُ‏:‏ إِمَّا بِشُبْهَةٍ فَاسِدَةٍ، تُعَارِضُ الْإِيمَانَ بِالْخَبَرِ عَمَّا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏ فَالتَّسْلِيمُ لَهُ‏:‏ تَرْكُ مُنَازَعَتِهِ بِشُبُهَاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْبَاطِلَةِ‏.‏

وَإِمَّا بِشَهْوَةٍ تُعَارِضُ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏ فَالتَّسْلِيمُ لِلْأَمْرِ بِالتَّخَلُّصِ مِنْهَا‏.‏

أَوْ إِرَادَةٍ تُعَارِضُ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ عَبْدِهِ، فَتُعَارِضُهُ إِرَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمُرَادِ الْعَبْدِ مِنَ الرَّبِّ‏.‏ فَالتَّسْلِيمُ‏:‏ بِالتَّخَلُّصِ مِنْهَا‏.‏

أَوِ اعْتِرَاضٍ يُعَارِضُ حِكْمَتَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، بِأَنْ يَظُنَّ أَنَّ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ خِلَافُ مَا شَرَعَ، وَخِلَافُ مَا قَضَى وَقَدَّرَ‏.‏ فَالتَّسْلِيمُ‏:‏ التَّخَلُّصُ مِنْ هَذِهِ الْمُنَازَعَاتِ كُلِّهَا‏.‏

وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مِنْ أَجَلِّ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ، وَأَعْلَى طُرُقِ الْخَاصَّةِ، وَأَنَّ التَّسْلِيمَ هُوَ مَحْضُ الصِّدِّيقِيَّةِ، الَّتِي هِيَ بَعْدَ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ، وَأَنَّ أَكْمَلَ النَّاسِ تَسْلِيمًا‏:‏ أَكْمَلُهُمْ صِدِّيقِيَّةً‏.‏

فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِ الشَّيْخِ‏.‏

فَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ تَسْلِيمُ مَا يُزَاحِمُ الْعُقُولَ مِمَّا سَبَقَ عَلَى الْأَوْهَامِ

فَيَعْنِي‏:‏ أَنَّ التَّسْلِيمَ يَقْتَضِي مَا يَنْهَى عَنْهُ الْعَقْلُ وَيُزَاحِمُهُ‏.‏ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّجْرِيدَ عَنِ الْأَسْبَابِ‏.‏ وَالْعَقْلُ يَأْمُرُ بِهَا‏.‏ فَصَاحِبُ التَّسْلِيمِ يُسَلِّمُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا هُوَ غَيْبٌ عَنِ الْعَبْدِ‏.‏ فَإِنَّ فِعْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَنْهَى الْعَقْلُ عَنِ التَّجَرُّدِ عَنْهَا‏.‏ فَإِذَا سَلَّمَ لِلَّهِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى السَّبَبِ فِي كُلِّ مَا غَابَ عَنْهُ‏.‏

فَالْأَوْهَامُ يَسْبِقُ عَلَيْهَا‏:‏ أَنَّ مَا غَابَ عَنْهَا مِنَ الْحِكَمِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْأَسْبَابِ‏.‏ وَالتَّسْلِيمُ يَقْتَضِي التَّجَرُّدَ عَنْهَا‏.‏ وَالْعَقْلُ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ‏.‏ وَالْوَهْمُ قَدْ سَبَقَ عَلَيْهِ أَنَّ الْغَيْبَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا‏.‏

فَهَاهُنَا أُمُورٌ سِتَّةٌ‏:‏ عَقْلٌ، وَمُزَاحِمٌ لَهُ، وَوَهْمٌ، وَسَائِقٌ إِلَيْهِ، وَغَيْبٌ، وَتَسْلِيمٌ لِهَذَا الْمُزَاحِمِ‏.‏

فَالْعَقْلُ هُوَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْأَسْبَابِ، الدَّاعِي لَهُ إِلَيْهَا، الَّتِي إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ عَنْهَا عُدَّ خُرُوجُهُ قَدْحًا فِي عَقْلِهِ‏.‏

وَالْمُزَاحِمُ لَهُ‏:‏ التَّجَرُّدُ عَنْهَا بِكَمَالِ التَّسْلِيمِ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ‏:‏ مَوَارِدُهَا وَمَصَادِرُهَا‏.‏

وَالْوَهْمُ‏:‏ اعْتِقَادُهُ تَوَقُّفَ حُصُولِ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ، وَحُصُولِ الْمَقْدُورِ- كَائِنًا مَا كَانَ- عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ لَوْلَاهَا لَمَا حَصَلَ الْمَقْدُورُ‏.‏

وَهَذَا هُوَ السَّائِقُ إِلَى الْوَهْمِ‏.‏

وَالْغَيْبُ‏:‏ هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي غَابَ عَنْهُ‏.‏ وَهُوَ فِعْلُ اللَّهِ‏.‏

وَالتَّسْلِيمُ‏:‏ تَسْلِيمُ هَذَا الْمُزَاحِمِ إِلَى نَفْسِ الْحُكْمِ‏.‏

مَعَ أَنَّ فِي تَنْزِيلِ عِبَارَتِهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَإِفْرَاغِ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوَالِبَ أَلْفَاظِهِ نَظَرًا‏.‏

وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ‏:‏ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ‏:‏ التَّسْلِيمُ لِمَا يَبْدُو لِلْعَبْدِ مِنْ مَعَانِي الْغَيْبِ مِمَّا يُزَاحِمُ مَعْقُولَهُ فِي بَادِيَ الرَّأْيِ، لِمَا يَسْبِقُ إِلَى وَهْمِهِ‏:‏ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِهِ‏.‏ فَيَسْبِقُ عَلَى الْأَوْهَامِ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي أَخْبَرْتُ بِهِ شَيْءٌ يُزَاحِمُ مَعْقُولَهَا فَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَ حُكْمِ الْعَقْلِ وَحُكْمِ الْوَهْمِ‏.‏ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْغَيْبِ قَدْ يُزَاحِمُ الْعَقْلَ بَعْضَ الْمُزَاحَمَةِ، وَيَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ خِلَافُهُ‏.‏ فَالتَّسْلِيمُ‏:‏ تَسْلِيمُ هَذَا الْمُزَاحِمِ إِلَى وَلِيِّهِ، وَمَنْ هُوَ أَخْبَرُ بِهِ، وَالتَّجَرُّدُ عَمَّا يَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ مِمَّا يُخَالِفُهُ‏.‏

وَهَذَا أَوْلَى الْمَعْنَيَيْنِ بِكَلَامِهِ‏.‏ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

فَالْأَوَّلُ‏:‏ تَسْلِيمُ مُنَازَعَاتِ الْأَسْبَابِ لِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ الْقَصْدِيِّ الْإِرَادِيِّ‏.‏ وَهَذَا تَجْرِيدُ مُنَازَعَاتِ الْأَوْهَامِ الْمُخَالِفَةِ لِلْخَبَرِ لِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ الْعِلْمِيِّ الْخَبَرِيِّ الِاعْتِقَادِيِّ‏.‏ وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّسْلِيمِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَالْإِذْعَانُ لِمَا يُغَالِبُ الْقِيَاسَ، مِنْ سَيْرِ الدُّوَلِ وَالْقِسَمِ‏.‏

أَيِ الِانْقِيَادُ لِمَا يُقَاوِي عَقْلَهُ وَقِيَاسَهُ، مِمَّا جَرَى بِهِ حُكْمُ اللَّهِ فِي الدُّوَلِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا‏:‏ مِنْ طَيِّ دَوْلَةٍ، وَنَشْرِ دَوْلَةٍ، وَإِعْزَازِ هَذِهِ وَإِذْلَالِ هَذِهِ، وَالْقِسَمِ الَّتِي قَسَّمَهَا عَلَى خَلْقِهِ، مَعَ شِدَّةِ تَفَاوُتِهَا، وَتَبَايُنِ مَقَادِيرِهَا، وَكَيْفِيَّاتِهَا وَأَجْنَاسِهَا، فَيُذْعِنُ لِحِكْمَةِ اللَّهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهَا بِشُبْهَةٍ وَقِيَاسٍ‏.‏

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِـ ‏"‏ الدُّوَلِ وَالْقِسَمِ ‏"‏ الْأَحْوَالَ الَّتِي تُتَدَاوَلُ عَلَى السَّالِكِ وَيَخْتَلِفُ سَيْرُهَا‏.‏ وَالْقِسَمُ الَّتِي نَالَتْهُ مِنَ اللَّهِ‏:‏ مَا كَانَ قِيَاسُ سَعْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ أَنْ يُحَصِّلَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْهَا‏.‏ فَيُذْعِنُ لِمَا غَالَبَ قِيَاسُهُ مِنْهَا، وَيُسَلِّمُ لِلْقَاسِمِ الْمُعْطِي بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ‏.‏ فَإِنَّ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ‏.‏ وَلَوْ أَغْنَاهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ‏.‏ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى‏.‏ وَلَوْ أَفْقَرَهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ‏.‏ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْمَرَضُ‏.‏ وَلَوْ أَصَحَّهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ‏.‏ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الصِّحَّةُ‏.‏ وَلَوْ أَمْرَضَهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَالْإِجَابَةُ لِمَا يُفْزِعُ الْمُرِيدُ مِنْ رُكُوبِ الْأَحْوَالِ‏.‏

يَقُولُ‏:‏ إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنْ قُوَّةِ التَّسْلِيمِ يَهْجُمُ عَلَى الْأُمُورِ الْمُفْزِعَةِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا‏.‏ وَلَا يَخَافُ مَعَهَا مِنْ رُكُوبِ الْأَحْوَالِ، وَاقْتِحَامِ الْأَهْوَالِ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ تَسْلِيمِهِ تَحْمِيهِ مِنْ خَطَرِهَا‏.‏ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخَافَ‏.‏ فَإِنَّهُ فِي حِصْنِ التَّسْلِيمِ وَمِنْعَتِهِ وَحِمَايَتِهِ‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفَّقُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تَسْلِيمُ الْعِلْمِ إِلَى الْحَالِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ تَسْلِيمُ الْعِلْمِ إِلَى الْحَالِ‏:‏ وَالْقَصْدُ إِلَى الْكَشْفِ، وَالرَّسْمِ إِلَى الْحَقِيقَةِ‏.‏

أَمَّا تَسْلِيمُ الْعِلْمِ إِلَى الْحَالِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ‏:‏ تَحْكِيمَ الْحَالِ عَلَى الْعِلْمِ، حَاشَا الشَّيْخِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ‏:‏ الِانْتِقَالَ مِنَ الْوُقُوفِ عِنْدَ صُوَرِ الْعِلْمِ الظَّاهِرَةِ إِلَى مَعَانِيهَا وَحَقَائِقِهَا الْبَاطِنَةِ، وَثَمَرَاتِهَا الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا، مِثْلَ الِانْتِقَالِ مِنْ مَحْضِ التَّقْلِيدِ وَالْخَبَرِ إِلَى الْعِيَانِ وَالْيَقِينِ‏.‏ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَى وَيُشَاهِدُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ‏}‏‏.‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى‏}‏‏.‏ وَيَنْتَقِلُ مِنَ الْحِجَابِ إِلَى الْكَشْفِ، فَيَنْتَقِلُ مِنَ الْعِلْمِ إِلَى الْيَقِينِ، وَمِنَ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ‏.‏ وَمِنْ عِلْمِ الْإِيمَانِ إِلَى ذَوْقِ طَعْمِ الْإِيمَانِ وَوِجْدَانِ حَلَاوَتِهِ‏.‏ فَإِنَّ هَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ عِلْمِهِ‏.‏ وَمِنْ عِلْمِ التَّوَكُّلِ إِلَى حَالِهِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ‏.‏

فَيُسَلِّمُ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ إِلَى الْحَالِ الصَّحِيحِ‏.‏ فَإِنَّ سُلْطَانَ الْحَالِ أَقْوَى مِنْ سُلْطَانِ الْعِلْمِ‏.‏ فَإِذَا كَانَ الْحَالُ مُخَالِفًا لِلْعِلْمِ فَهُوَ مَلِكٌ ظَالِمٌ‏.‏ فَلْيَخْرُجْ عَلَيْهِ بِسَيْفِ الْعِلْمُ، وَلْيُحَكِّمْهُ فِيهِ‏.‏

وَأَمَّا تَسْلِيمُ الْقَصْدِ إِلَى الْكَشْفِ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ‏:‏ أَنْ يَتْرُكَ الْقَصْدَ عَنْ مُعَايَنَةِ الْكَشْفِ‏.‏ فَإِنَّهُ مَتَّى تَرَكَ الْقَصْدَ خَلَعَ رِبْقَةَ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ عُنُقِهِ‏.‏ وَلَكِنْ يَجْعَلُ قَصْدَهُ سَائِرًا طَالِبًا لِكَشْفِهِ يَؤُمُّهُ‏.‏ فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ‏.‏ وَصَارَ الْحُكْمُ لِلْكَشْفِ؛ إِذِ الْقَصْدُ آلَةٌ وَوَسِيلَةٌ إِلَيْهِ‏.‏ فَإِنْ كَانَ كَشْفًا صَحِيحًا مُطَابِقًا لِلْحَقِّ فِي نَفْسِهِ‏:‏ كَشَفَ لَهُ عَنْ آفَاتِ الْقَصْدِ، وَمُفْسِدَاتِهِ، وَمُصَحِّحَاتِهِ وَعُيُوبِهِ‏.‏ فَأَقْبَلَ عَلَى تَصْحِيحِهِ بِنُورِ الْكَشْفِ‏.‏ لَا أَنَّ صَاحِبَ الْقَصْدِ تَرَكَ الْقَصْدَ لِأَجْلِ الْكَشْفِ فَهَذَا سَيْرُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ، النَّاكِبِينَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَالرَّشَادِ‏.‏

وَأَمَّا تَرْكُ الرَّسْمِ إِلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِهِ إِلَى الْفَنَاءِ‏.‏ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ تَسْلِيمِ صَاحِبِ الْفَنَاءِ‏:‏ تَسْلِيمَ ذَاتِهِ لِيَفْنَى فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ‏.‏ فَإِنَّ ذَاتَ الْعَبْدِ هِيَ رَسْمٌ‏.‏ وَالرَّسْمُ تُفْنِيهِ الْحَقِيقَةُ، كَمَا يُفْنِي النُّورُ الظُّلْمَةَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَصْحَابِ الْفَنَاءِ‏:‏ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ لَا يَرَاهُ سِوَاهُ‏.‏ وَلَا يُشَاهِدُهُ غَيْرُهُ‏.‏ لَا بِمَعْنَى الِاتِّحَادِ، وَلَكِنْ بِمَعْنَى‏:‏ أَنَّهُ لَا يُشَاهِدُهُ الْعَبْدُ حَتَّى يَفْنَى عَنْ إِنِّيَّتِهِ وَرَسْمِهِ، وَجَمِيعِ عَوَالِمِهِ، فَيَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ‏.‏ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ‏.‏ هَذَا كَإِجْمَاعٍ مِنَ الطَّائِفَةِ، بَلْ هُوَ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ‏.‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَسْلِيمُ مَا دُونُ الْحَقِّ إِلَى الْحَقِّ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ تَسْلِيمُ مَا دُونُ الْحَقِّ إِلَى الْحَقِّ، مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ رُؤْيَةِ التَّسْلِيمِ، بِمُعَايَنَةِ تَسْلِيمِ الْحَقِّ إِيَّاكَ إِلَيْهِ‏.‏

هَذِهِ الدَّرَجَةُ تَكْمِلَةُ الدَّرَجَةِ الَّتِي قَبْلَهَا‏.‏ فَإِنَّ التَّسْلِيمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا بِدَايَةٌ لَهَا‏.‏ وَهِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ‏.‏ فَالْأُولَى‏:‏ بِدَايَةٌ، وَالثَّانِيَةُ‏:‏ وَسَطٌ وَالثَّالِثَةُ‏:‏ نِهَايَةٌ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ تَسْلِيمُ مَا دُونُ الْحَقِّ إِلَى الْحَقِّ‏.‏ يُرِيدُ بِهِ‏:‏ اضْمِحْلَالَ رُسُومِ الْخَلْقِ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ‏.‏ وَكُلُّ مَا دُونُ الْحَقِّ رُسُومٌ‏.‏ فَإِذَا سَلَّمَ رَسْمَهُ الْخَاصَّ إِلَى رَبِّهِ‏:‏ حَصَلَ لَهُ حَقِيقَةُ الْفَنَاءِ‏.‏ وَهَذَا التَّسْلِيمُ نَوْعَانِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ تَسْلِيمُ رَسْمِهِ الْخَاصِّ بِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ تَسْلِيمُ رُسُومِ الْكَائِنَاتِ، وَرُؤْيَةِ تَلَاشِيهَا وَاضْمِحْلَالِهَا فِي عَيْنِ الْحَقِيقَةِ‏.‏ وَهَذَا عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ‏.‏ وَالْأَوَّلُ حَالٌ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَالسَّلَامَةُ مِنْ رُؤْيَةِ التَّسْلِيمِ؛ أَيْ يَنْسَلِبُ أَيْضًا مِنْ رَسْمِ رُؤْيَةِ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ أَيْضًا رَسْمٌ مِنْ جُمْلَةِ الرُّسُومِ‏.‏ فَمَا دَامَ مُسْتَصْحِبًا لَهَا‏:‏ لَمْ يُسَلِّمِ التَّسْلِيمَ التَّامَّ‏.‏ وَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ مُنَازَعَاتِ رَسْمِهِ‏.‏

ثُمَّ عَرَّفَ كَيْفِيَّةَ هَذَا التَّسْلِيمِ، فَقَالَ‏:‏ بِمُعَايَنَةِ تَسْلِيمِ الْحَقِّ إِيَّاكَ إِلَيْهِ؛ أَيْ يَنْكَشِفُ لَكَ- حِينَ تُسَلِّمُ مَا دُونُ الْحَقِّ إِلَى الْحَقِّ- أَنَّ الْحَقَّ تَعَالَى هُوَ الَّذِي سَلَّمَ إِلَى نَفْسِهِ مَا دُونَهُ‏.‏ فَالْحَقُّ تَعَالَى هُوَ الَّذِي سَلَّمَكَ إِلَيْهِ‏.‏ فَهُوَ الْمُسَلِّمُ وَهُوَ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ‏.‏ وَأَنْتَ آلَةُ التَّسْلِيمِ‏.‏ فَمَنْ شَهِدَ هَذَا الْمَشْهَدَ‏:‏ وَجَدَ ذَاتَهُ مُسَلَّمَةً إِلَى الْحَقِّ‏.‏ وَمَا سَلَّمَهَا إِلَى الْحَقِّ غَيْرُ الْحَقِّ، فَقَدْ سَلِمَ الْعَبْدُ مِنْ دَعْوَى التَّسْلِيمِ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الصَّبْرِ

وَمِنْ مَنَازِلِ‏:‏‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ الصَّبْرِ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ الصَّبْرُ فِي الْقُرْآنِ فِي نَحْوِ تِسْعِينَ مَوْضِعًا‏.‏

وَهُوَ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ‏.‏ وَهُوَ نِصْفُ الْإِيمَانِ‏.‏ فَإِنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ‏:‏ نِصْفُ صَبْرٍ، وَنِصْفُ شُكْرٍ‏.‏

وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ نَوْعًا الصَّبْرُ‏.‏

الْأَوَّلُ‏:‏ الْأَمْرُ بِهِ‏.‏ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ‏}‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ‏}‏‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اصْبِرُوا وَصَابِرُوا‏}‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ‏}‏‏.‏

الثَّانِي‏:‏ النَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ‏}‏، فَإِنَّ تَوْلِيَةَ الْأَدْبَارِ‏:‏ تَرْكٌ لِلصَّبْرِ وَالْمُصَابَرَةِ‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏ فَإِنَّ إِبْطَالَهَا تَرْكُ الصَّبْرِ عَلَى إِتْمَامِهَا‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا‏}‏ فَإِنَّ الْوَهْنَ مِنْ عَدَمِ الصَّبْرِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ الثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ‏}‏ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏‏.‏ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ إِيجَابُهُ سُبْحَانَهُ مَحَبَّتَهُ لَهُمْ‏.‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ‏}‏‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ إِيجَابُ مَعِيَّتِهِ لَهُمْ‏.‏ وَهِيَ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ‏.‏ تَتَضَمَّنُ حِفْظَهُمْ وَنَصْرَهُمْ، وَتَأْيِيدَهُمْ‏.‏ لَيْسَتْ مَعِيَّةً عَامَّةً‏.‏ وَهِيَ مَعِيَّةُ الْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ‏.‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ إِخْبَارُهُ بِأَنَّ الصَّبْرَ خَيْرٌ لِأَصْحَابِهِ‏.‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ‏}‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ إِيجَابُ الْجَزَاءِ لَهُمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ‏.‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ إِيجَابُهُ سُبْحَانَهُ الْجَزَاءَ لَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏.‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏‏.‏

التَّاسِعُ‏:‏ إِطْلَاقُ الْبُشْرَى لِأَهْلِ الصَّبْرِ‏.‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ‏}‏‏.‏

الْعَاشِرُ‏:‏ ضَمَانُ النَّصْرِ وَالْمَدَدِ لَهُمْ‏.‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ‏.‏

الْحَادِي عَشَرَ‏:‏ الْإِخْبَارُ مِنْهُ تَعَالَى بِأَنَّ أَهْلَ الصَّبْرِ هُمْ أَهْلُ الْعَزَائِمِ‏.‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏‏.‏

الثَّانِي عَشَرَ‏:‏ الْإِخْبَارُ أَنَّهُ مَا يَلْقَى الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَجَزَاءَهَا وَالْحُظُوظَ الْعَظِيمَةَ إِلَّا أَهْلُ الصَّبْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

الثَّالِثَ عَشَرَ‏:‏ الْإِخْبَارُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ أَهْلُ الصَّبْرِ‏.‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى‏:‏ ‏{‏أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏، وَقَوْلِهِ فِي أَهْلِ سَبَإٍ‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ فِي سُورَةِ الشُّورَى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏‏.‏

الرَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْفَوْزَ الْمَطْلُوبَ الْمَحْبُوبَ، وَالنَّجَاةَ مِنَ الْمَكْرُوهِ الْمَرْهُوبِ، وَدُخُولَ الْجَنَّةِ، إِنَّمَا نَالُوهُ بِالصَّبْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ‏}‏‏.‏

الْخَامِسَ عَشَرَ‏:‏ أَنَّهُ يُورِثُ صَاحِبَهُ دَرَجَةَ الْإِمَامَةِ‏.‏ سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ- يَقُولُ‏:‏ بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ‏.‏ ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ‏}‏‏.‏

السَّادِسَ عَشَرَ‏:‏ اقْتِرَانُهُ بِمَقَامَاتِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، كَمَا قَرَنَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْيَقِينِ وَبِالْإِيمَانِ، وَالتَّقْوَى وَالتَّوَكُّلِ‏.‏ وَبِالشُّكْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالرَّحْمَةِ‏.‏

وَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا جَسَدَ لِمَنْ لَا رَأْسَ لَهُ‏.‏ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ خَيْرُ عَيْشٍ أَدْرَكْنَاهُ بِالصَّبْرِ‏.‏ وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ ضِيَاءٌ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ‏:‏ عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ‏!‏ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ‏.‏ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ‏.‏ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ‏.‏ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ‏.‏ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ‏.‏ ‎‏.‏

وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي كَانَتْ تُصْرَعُ فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا‏:‏ إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ‏.‏ فَقَالَتْ‏:‏ إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ‏.‏ فَدَعَا لَهَا‏.‏

وَأَمَرَ الْأَنْصَارَ- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ- بِأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى الْأَثَرَةِ الَّتِي يَلْقَوْنَهَا بَعْدَهُ، حَتَّى يَلْقَوْهُ عَلَى الْحَوْضِ‏.‏

وَأَمَرَ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ بِالصَّبْرِ‏.‏ وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ‏.‏ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى‏.‏

وَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَابَ بِأَنْفَعِ الْأُمُورِ لَهُ، وَهُوَ الصَّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ‏.‏ فَإِنَّ ذَلِكَ يُخَفِّفُ مُصِيبَتَهُ، وَيُوَفِّرُ أَجْرَهُ‏.‏ وَالْجَزَعُ وَالتَّسَخُّطُ وَالتَّشَكِّي يَزِيدُ فِي الْمُصِيبَةِ، وَيُذْهِبُ الْأَجْرَ‏.‏

وَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الصَّبْرَ خَيْرٌ كُلُّهُ، فَقَالَ‏:‏ مَا أُعْطِي أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا لَهُ وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ‏.‏‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏تَعْرِيفُ الصَّبْرِ‏]‏

وَالصَّبْرُ تَعْرِيفُهُ فِي اللُّغَةِ‏:‏ الْحَبْسُ وَالْكَفُّ‏.‏ وَمِنْهُ‏:‏ قُتِلَ فُلَانٌ صَبْرًا‏.‏ إِذَا أُمْسِكَ وَحُبِسَ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏؛ أَيِ احْبِسْ نَفْسَكَ مَعَهُمْ‏.‏

فَالصَّبْرُ‏:‏ حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الْجَزَعِ وَالتَّسَخُّطِ‏.‏ وَحَبْسُ اللِّسَانِ عَنِ الشَّكْوَى‏.‏ وَحَبْسُ الْجَوَارِحِ عَنِ التَّشْوِيشِ‏.‏

وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أَنْوَاعُ الصَّبْرِ‏:‏ صَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ‏.‏ وَصَبْرٌ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ‏.‏ وَصَبْرٌ عَلَى امْتِحَانِ اللَّهِ‏.‏

فَالْأَوَّلَانِ‏:‏ صَبْرٌ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَسْبِ‏.‏ وَالثَّالِثُ‏:‏ صَبْرٌ عَلَى مَا لَا كَسْبَ لِلْعَبْدِ فِيهِ‏.‏

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ- يَقُولُ‏:‏ كَانَ صَبْرُ يُوسُفَ عَنْ مُطَاوَعَةِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ عَلَى شَأْنِهَا‏:‏ أَكْمَلُ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى إِلْقَاءِ إِخْوَتِهِ لَهُ فِي الْجُبِّ، وَبَيْعِهِ وَتَفْرِيقِهِمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ‏.‏ فَإِنَّ هَذِهِ أُمُورٌ جَرَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، لَا كَسْبَ لَهُ فِيهَا، لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهَا حِيلَةٌ غَيْرَ الصَّبْرِ، وَأَمَّا صَبْرُهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ‏:‏ فَصَبْرُ اخْتِيَارٍ وَرِضًا وَمُحَارَبَةٍ لِلنَّفْسِ‏.‏ وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْوَى مَعَهَا دَوَاعِي الْمُوَافَقَةِ‏.‏ فَإِنَّهُ كَانَ شَابًّا، وَدَاعِيَةُ الشَّبَابِ إِلَيْهَا قَوِيَّةٌ‏.‏ وَعَزَبًا لَيْسَ لَهُ مَا يُعَوِّضُهُ وَيَرُدُّ شَهْوَتَهُ‏.‏ وَغَرِيبًا، وَالْغَرِيبُ لَا يَسْتَحِي فِي بَلَدِ غُرْبَتِهِ مِمَّا يَسْتَحِي مِنْهُ مَنْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَمَعَارِفِهِ وَأَهْلِهِ‏.‏ وَمَمْلُوكًا، وَالْمَمْلُوكُ أَيْضًا لَيْسَ وَازِعُهُ كَوَازِعِ الْحُرِّ‏.‏ وَالْمَرْأَةُ جَمِيلَةٌ، وَذَاتُ مَنْصِبٍ‏.‏ وَهِيَ سَيِّدَتُهُ‏.‏ وَقَدْ غَابَ الرَّقِيبُ‏.‏ وَهِيَ الدَّاعِيَةُ لَهُ إِلَى نَفْسِهَا‏.‏ وَالْحَرِيصَةُ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْحِرْصِ، وَمَعَ ذَلِكَ تَوَعَّدَتْهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ بِالسِّجْنِ وَالصَّغَارِ‏.‏ وَمَعَ هَذِهِ الدَّوَاعِي كُلِّهَا صَبَرَ اخْتِيَارًا، وَإِيثَارًا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ‏.‏ وَأَيْنَ هَذَا مِنْ صَبْرِهِ فِي الْجُبِّ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ‏؟‏

وَكَانَ يَقُولُ‏:‏ الصَّبْرُ عَلَى أَدَاءِ الطَّاعَاتِ‏:‏ أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَفْضَلُ‏;‏ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ فِعْلِ الطَّاعَةِ أَحَبُّ إِلَى الشَّارِعِ مِنْ مَصْلَحَةِ تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ‏.‏ وَمُفْسِدَةُ عَدَمِ الطَّاعَةِ‏:‏ أَبْغَضُ إِلَيْهِ وَأَكْرَهُ مِنْ مَفْسَدَةِ وُجُودِ الْمَعْصِيَةِ‏.‏

وَلَهُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ قَرَّرَهُ فِيهِ بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ وَجْهًا‏.‏ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا‏.‏

وَالْمَقْصُودُ‏:‏ الْكَلَامُ عَلَى الصَّبْرِ وَحَقِيقَتِهِ وَدَرَجَاتِهِ وَمَرْتَبَتِهِ‏.‏ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ أَنْوَاعُ الصَّبْرِ

وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ‏:‏ صَبْرٌ بِاللَّهِ‏.‏ وَصَبْرٌ لِلَّهِ‏.‏ وَصَبْرٌ مَعَ اللَّهِ‏.‏

فَالْأَوَّلُ‏:‏ صَبْرُ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَرُؤْيَتُهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُصَبِّرُ، وَأَنَّ صَبْرَ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ لَا بِنَفْسِهِ‏.‏ كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ‏}‏ يَعْنِي إِنْ لَمْ يُصَبِّرْكَ هُوَ لَمْ تَصْبِرْ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ الصَّبْرُ لِلَّهِ‏.‏ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الصَّبْرِ مَحَبَّةَ اللَّهِ، وَإِرَادَةَ وَجْهِهِ‏.‏ وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ‏.‏ لَا لِإِظْهَارِهِ قُوَّةَ النَّفْسِ، وَالِاسْتِحْمَادَ إِلَى الْخَلْقِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْرَاضِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ الصَّبْرُ مَعَ اللَّهِ‏.‏ وَهُوَ دَوَرَانُ الْعَبْدِ مَعَ مُرَادِ اللَّهِ الدِّينِيِّ مِنْهُ‏.‏ وَمَعَ أَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ‏.‏ صَابِرًا نَفْسَهُ مَعَهَا، سَائِرًا بِسَيْرِهَا‏.‏ مُقِيمًا بِإِقَامَتِهَا‏.‏ يَتَوَجَّهُ مَعَهَا أَيْنَ تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهَا‏.‏ وَيَنْزِلُ مَعَهَا أَيْنَ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهَا‏.‏

فَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ صَابِرًا مَعَ اللَّهِ؛ أَيْ قَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ وَقْفًا عَلَى أَوَامِرِهِ وَمَحَابِّهِ‏.‏ وَهُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ وَأَصْعَبِهَا‏.‏ وَهُوَ صَبْرُ الصِّدِّيقِينَ‏.‏

قَالَ الْجُنَيْدُ‏:‏ الْمَسِيرُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ سَهْلٌ هَيِّنٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ‏.‏ وَهِجْرَانُ الْخَلْقِ فِي جَنْبِ اللَّهِ شَدِيدٌ، وَالْمَسِيرُ مِنَ النَّفْسِ إِلَى اللَّهِ صَعْبٌ شَدِيدٌ‏.‏ وَالصَّبْرُ مَعَ اللَّهِ أَشَدُّ‏.‏

وَسُئِلَ عَنِ الصَّبْرِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ تَجَرُّعُ الْمَرَارَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّسٍ‏.‏

قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ‏:‏ الصَّبْرُ‏:‏ التَّبَاعُدُ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ‏.‏ وَالسُّكُونُ عِنْدَ تَجَرُّعِ غُصَصِ الْبَلِيَّةِ‏.‏ وَإِظْهَارُ الْغِنَى مَعَ حُلُولِ الْفَقْرِ بِسَاحَاتِ الْمَعِيشَةِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الصَّبْرُ‏:‏ تَعْرِيفَاتُ الْوُقُوفُ مَعَ الْبَلَاءِ بِحُسْنِ الْأَدَبِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ الْفَنَاءُ فِي الْبَلْوَى، بِلَا ظُهُورٍ وَلَا شَكْوَى‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ تَعْوِيدُ النَّفْسِ الْهُجُومَ عَلَى الْمَكَارِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُقَامُ مَعَ الْبَلَاءِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ، كَالْمُقَامِ مَعَ الْعَافِيَةِ‏.‏

وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ‏:‏ هُوَ الثَّبَاتُ مَعَ اللَّهِ، وَتَلَقِّي بَلَائِهِ بِالرَّحْبِ وَالدَّعَةِ‏.‏

وَقَالَ الْخَوَّاصُ‏:‏ هُوَ الثَّبَاتُ عَلَى أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ‏.‏

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ‏:‏ صَبْرُ الْمُحِبِّينَ أَشَدُّ مِنْ صَبْرِ الزَّاهِدِينَ‏.‏ وَاعَجَبًا‏!‏ كَيْفَ يَصْبِرُونَ‏؟‏ وَأَنْشَدَ‏:‏

وَالصَّبْرُ يَجْمُلُ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا *** إِلَّا عَلَيْكَ فَإِنَّهُ لَا يَجْمُلُ

وَقِيلَ‏:‏ الصَّبْرُ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ تَرْكُ الشَّكْوَى‏.‏

وَقِيلَ‏:‏

الصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌّ مَذَاقَتُهُ *** لَكِنَّ عَوَاقِبَهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ

وَقِيلَ‏:‏ الصَّبْرُ أَنْ تَرْضَى بِتَلَفِ نَفْسِكَ فِي رِضَا مَنْ تُحِبُّهُ‏.‏ كَمَا قِيلَ‏:‏

سَأَصْبِرُ كَيْ تَرْضَى وَأَتْلَفَ حَسْرَةً *** وَحَسَبِي أَنْ تَرْضَى وَيُتْلِفَنِي صَبْرِي

وَقِيلَ‏:‏ مَرَاتِبُ الصَّابِرِينَ خَمْسَةٌ‏:‏ صَابِرٌ، وَمُصْطَبِرٌ، وَمُتَصَبِّرٌ، وَصَبُورٌ، وَصَبَّارٌ، فَالصَّابِرُ‏:‏ أَعَمُّهَا، وَالْمُصْطَبِرُ‏:‏ الْمُكْتَسِبُ الصَّبْرَ الْمَلِيءُ بِهِ‏.‏ وَالْمُتَصَبِّرُ‏:‏ الْمُتَكَلِّفُ حَامِلٌ نَفْسَهُ عَلَيْهِ‏.‏ وَالصَّبُورُ‏:‏ الْعَظِيمُ الصَّبْرِ الَّذِي صَبْرُهُ أَشَدُّ مِنْ صَبْرِ غَيْرِهِ‏.‏ وَالصَّبَّارُ‏:‏ الْكَثِيرُ الصَّبْرِ‏.‏ فَهَذَا فِي الْقَدْرِ وَالْكَمِّ‏.‏ وَالَّذِي قَبْلَهُ فِي الْوَصْفِ وَالْكَيْفِ‏.‏

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ الصَّبْرُ مَطِيَّةٌ لَا تَكْبُو‏.‏

وَقَفَ رَجُلٌ عَلَى الشِّبْلِيِّ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ أَيُّ صَبْرٍ أَشَدُّ عَلَى الصَّابِرِينَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ الصَّبْرُ فِي اللَّهِ‏.‏ قَالَ السَّائِلُ‏:‏ لَا‏.‏ فَقَالَ‏:‏ الصَّبْرُ لِلَّهِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ لَا‏.‏ فَقَالَ‏:‏ الصَّبْرُ مَعَ اللَّهِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ لَا‏.‏ قَالَ الشِّبْلِيُّ‏:‏ فَإِيشْ هُوَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الصَّبْرُ عَنِ اللَّهِ‏.‏ فَصَرَخَ الشِّبْلِيُّ صَرْخَةً كَادَتْ رُوحُهُ تَتْلَفَ‏.‏

وَقَالَ الْجَرِيرِيُّ‏:‏ الصَّبْرُ أَنْ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ حَالِ النِّعْمَةِ وَحَالِ الْمَحَبَّةِ، مَعَ سُكُونِ الْخَاطِرِ فِيهِمَا‏.‏ وَالتَّصَبُّرُ‏:‏ هُوَ السُّكُونُ مَعَ الْبَلَاءِ، مَعَ وِجْدَانِ أَثْقَالِ الْمِحْنَةِ‏.‏

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ‏:‏ فَازَ الصَّابِرُونَ بِعِزِّ الدَّارَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ نَالُوا مِنَ اللَّهِ مَعِيَّتَهُ‏.‏ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏.‏

وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا‏}‏‏.‏ إِنَّهُ انْتِقَالٌ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى‏.‏ فَالصَّبْرُ دُونَ الْمُصَابَرَةِ‏.‏ وَالْمُصَابَرَةُ دُونَ الْمُرَابَطَةِ وَالْمُرَابَطَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الرَّبْطِ وَهُوَ الشَّدُّ‏.‏ وَسُمِّي الْمُرَابِطُ مُرَابِطًا لِأَنَّ الْمُرَابِطِينَ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ يَنْتَظِرُونَ الْفَزَعَ‏.‏ ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ مُنْتَظِرٍ قَدْ رَبَطَ نَفْسَهُ لِطَاعَةٍ يَنْتَظِرُهَا‏:‏ مُرَابِطٌ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ‏؟‏ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏:‏ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ اصْبِرُوا بِنُفُوسِكُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ‏.‏ وَصَابِرُوا بِقُلُوبِكُمْ عَلَى الْبَلْوَى فِي اللَّهِ‏.‏ وَرَابِطُوا بِأَسْرَارِكُمْ عَلَى الشَّوْقِ إِلَى اللَّهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ اصْبِرُوا فِي اللَّهِ‏.‏ وَصَابِرُوا بِاللَّهِ‏.‏ وَرَابِطُوا مَعَ اللَّهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ اصْبِرُوا عَلَى النَّعْمَاءِ‏.‏ وَصَابِرُوا عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ‏.‏ وَرَابِطُوا فِي دَارِ الْأَعْدَاءِ‏.‏ وَاتَّقَوْا إِلَهَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ‏.‏ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ‏.‏

فَالصَّبْرُ مَعَ نَفْسِكَ، وَالْمُصَابَرَةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوِّكَ، وَالْمُرَابَطَةُ الثَّبَاتُ وَإِعْدَادُ الْعُدَّةِ‏.‏ وَكَمَا أَنَّ الرِّبَاطَ لُزُومُ الثَّغْرِ لِئَلَّا يَهْجُمَ مِنْهُ الْعَدُوُّ‏.‏ فَكَذَلِكَ الرِّبَاطُ أَيْضًا لُزُومُ ثَغْرِ الْقَلْبِ لِئَلَّا يَهْجُمَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ، فَيَمْلِكَهُ وَيُخَرِّبَهُ أَوْ يُشَعِّثَهُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ تَجَرَّعِ الصَّبْرَ، فَإِنْ قَتَلَكَ قَتَلَكَ شَهِيدًا‏.‏ وَإِنْ أَحْيَاكَ أَحْيَاكَ عَزِيزًا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الصَّبْرُ لِلَّهِ غِنَاءٌ‏.‏ وَبِاللَّهِ تَعَالَى بَقَاءٌ‏.‏ وَفِي اللَّهِ بَلَاءٌ‏.‏ وَمَعَ اللَّهِ وَفَاءٌ‏.‏ وَعَنِ اللَّهِ جَفَاءٌ‏.‏ وَالصَّبْرُ عَلَى الطَّلَبِ عُنْوَانُ الظَّفَرِ‏.‏ وَفِي الْمِحَنِ عُنْوَانُ الْفَرَجِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ حَالُ الْعَبْدِ مَعَ اللَّهِ رِبَاطُهُ‏.‏ وَمَا دُونَ اللَّهِ أَعْدَاؤُهُ‏.‏

وَفِي كِتَابِ الْأَدَبِ لِلْبُخَارِيِّ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ الصَّبْرُ، وَالسَّمَاحَةُ‏.‏ ذَكَرَهُ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ‏.‏ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فَذَكَرَهُ‏.‏

وَهَذَا مِنْ أَجْمَعِ الْكَلَامِ وَأَعْظَمِهِ بُرْهَانًا، وَأَوْعَبِهِ لِمَقَامَاتِ الْإِيمَانِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا‏.‏

فَإِنَّ النَّفْسَ يُرَادُ مِنْهَا شَيْئَانِ‏:‏ بَذْلُ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَإِعْطَاؤُهُ‏.‏ فَالْحَامِلُ عَلَيْهِ‏:‏ السَّمَاحَةُ‏.‏ وَتَرْكُ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ، وَالْبُعْدُ مِنْهُ‏.‏ فَالْحَامِلُ عَلَيْهِ‏:‏ الصَّبْرُ‏.‏

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ، وَالصَّفْحِ الْجَمِيلِ، وَالْهَجْرِ الْجَمِيلِ‏.‏ فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ- يَقُولُ‏:‏ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا شَكْوَى فِيهِ وَلَا مَعَهُ‏.‏ وَالصَّفْحُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا عِتَابَ مَعَهُ‏.‏ وَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا أَذَى مَعَهُ‏.‏

وَفِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ‏:‏ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ‏:‏ أَنْزَلْتُ بِعَبْدِي بَلَائِي، فَدَعَانِي‏.‏ فَمَاطَلْتُهُ بِالْإِجَابَةِ، فَشَكَانِي‏.‏ فَقُلْتُ‏:‏ عَبْدِي، كَيْفَ أَرْحَمُكَ مِنْ شَيْءٍ بِهِ أَرْحَمُكَ‏؟‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا‏}‏ قَالَ‏:‏ أَخَذُوا بِرَأْسِ الْأَمْرِ فَجَعَلَهُمْ رُؤَسَاءَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ صَبْرُ الْعَابِدِينَ أَحْسَنُهُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا، وَصَبْرُ الْمُحِبِّينَ أَحْسَنُهُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوضًا‏.‏ كَمَا قِيلَ‏:‏

تَبَيَّنَ يَوْمَ الْبَيْنِ أَنَّ اعْتِزَامَهُ *** عَلَى الصَّبْرِ مِنْ إِحْدَى الظُّنُونِ الْكَوَاذِبِ

وَالشَّكْوَى إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا تُنَافِي الصَّبْرَ‏.‏ فَإِنَّ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَعَدَ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ‏.‏ وَالنَّبِيُّ إِذَا وَعَدَ لَا يُخْلِفُ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ‏}‏ وَكَذَلِكَ أَيُّوبُ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَجَدَهُ صَابِرًا مَعَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏‏.‏

وَإِنَّمَا يُنَافِي الصَّبْرَ شَكْوَى اللَّهِ، لَا الشَّكْوَى إِلَى اللَّهِ‏.‏ كَمَا رَأَى بَعْضُهُمْ رَجُلًا يَشْكُو إِلَى آخَرَ فَاقَةً وَضَرُورَةً‏.‏ فَقَالَ‏:‏ يَا هَذَا، تَشْكُو مَنْ يَرْحَمُكَ إِلَى مَنْ لَا يَرْحَمُكَ‏؟‏ ثُمَّ أَنْشَدَ‏:‏

وَإِذَا عَرَتْكَ بَلِيَّةٌ فَاصْبِرْ لَهَا *** صَبْرَ الْكَرِيمِ فَإِنَّهُ بِكَ أَعْلَمُ

وَإِذَا شَكَوْتَ إِلَى ابْنِ آدَمَ إِنَّمَا *** تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لَا يَرْحَمُ

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الصَّبْرُ أَصْعَبُ الْمَنَازِلِ عَلَى الْعَامَّةِ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏‏:‏

الصَّبْرُ‏:‏ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكْرُوهِ‏.‏ وَعَقْلُ اللِّسَانِ عَنِ الشَّكْوَى‏.‏ وَهُوَ مِنْ

أَصْعَبُ الْمَنَازِلِ عَلَى الْعَامَّةِ الصَّبْرُ‏.‏ وَأَوْحَشُهَا فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ‏.‏ وَأَنْكَرُهَا فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ

وَإِنَّمَا كَانَ صَعْبًا عَلَى الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ مُبْتَدِئٌ فِي الطَّرِيقِ‏.‏ وَمَا لَهُ دُرْبَةٌ فِي السُّلُوكِ‏.‏ وَلَا تَهْذِيبِ الْمُرْتَاضِ بِقَطْعِ الْمَنَازِلِ‏.‏ فَإِذَا أَصَابَتْهُ الْمِحَنُ أَدْرَكَهُ الْجَزَعُ‏.‏ وَصَعُبَ عَلَيْهِ احْتِمَالُ الْبَلَاءِ‏.‏ وَعَزَّ عَلَيْهِ وُجْدَانُ الصَّبْرِ‏.‏ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ‏.‏ فَيَكُونَ مُسْتَوْطِنًا لِلصَّبْرِ‏.‏ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ، فَيَلْتَذَّ بِالْبَلَاءِ فِي رِضَا مَحْبُوبِهِ‏.‏ وَأَمَّا كَوْنُهُ وَحْشَةً فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ‏:‏ فَلِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْتِذَاذَ الْمُحِبِّ بِامْتِحَانِ مَحْبُوبِهِ لَهُ ‏,‏ وَالصَّبْرُ يَقْتَضِي كَرَاهِيَتَهُ لِذَلِكَ ‏,‏ وَحَبْسَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ كَرْهًا‏.‏ فَهُوَ وَحْشَةٌ فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ‏.‏ وَفِي الْوَحْشَةِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ؛ لِأَنَّ الِالْتِذَاذَ بِالْمِحْنَةِ فِي الْمَحَبَّةِ هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِ أُنْسِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ‏.‏ فَإِذَا أَحَسَّ بِالْأَلَمِ- بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ- انْتَقَلَ مِنَ الْأُنْسِ إِلَى الْوَحْشَةِ‏.‏ وَلَوْلَا الْوَحْشَةُ لَمَا أَحَسَّ بِالْأَلَمِ الْمُسْتَدْعِي لِلصَّبْرِ‏.‏

وَإِنَّمَا كَانَ أَنْكَرَهَا فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ لِأَنَّ فِيهِ قُوَّةَ الدَّعْوَى‏.‏ لِأَنَّ الصَّابِرَ يَدَّعِي بِحَالِهِ قُوَّةَ الثَّبَاتِ‏.‏ وَذَلِكَ ادِّعَاءٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ قُوَّةً عَظِيمَةً‏.‏ وَهَذَا مُصَادَمَةٌ لِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ‏.‏ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ قُوَّةٌ أَلْبَتَّةَ‏.‏ بَلْ لِلَّهِ الْقُوَّةُ جَمِيعًا‏.‏ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ‏.‏

فَهَذَا سَبَبُ كَوْنِ الصَّبْرِ مُنْكَرًا فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ‏.‏ بَلْ مِنْ أَنْكَرِ الْمُنْكَرِ- كَمَا قَالَ- لِأَنَّ التَّوْحِيدَ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى اللَّهِ، وَالصَّبْرَ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى النَّفْسِ‏.‏ وَإِثْبَاتُ النَّفْسِ فِي التَّوْحِيدِ مُنْكَرٌ‏.‏

هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ مُحَرَّرًا مُقَرَّرًا‏.‏ وَهُوَ مِنْ مُنْكَرِ كَلَامِهِ‏.‏

بَلِ الصَّبْرُ مِنْ آكَدِ الْمَنَازِلِ فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ، وَأَلْزَمِهَا لِلْمُحِبِّينَ‏.‏ وَهُمْ أَحْوَجُ إِلَى مَنْزِلَتِهِ مِنْ كُلِّ مَنْزِلَةٍ‏.‏ وَهُوَ مِنْ أَعْرَفِ الْمَنَازِلِ فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ وَأَبْيَنِهَا‏.‏

وَحَاجَةُ الْمُحِبِّ إِلَيْهِ ضَرُورِيَّةٌ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ كَيْفَ تَكُونُ حَاجَةُ الْمُحِبِّ إِلَيْهِ ضَرُورِيَّةً، مَعَ مُنَافَاتِهِ لِكَمَالِ الْمَحَبَّةِ‏.‏ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ مُنَازَعَاتِ النَّفْسِ لِمُرَادِ الْمَحْبُوبِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ هَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا كَانَ مِنْ آكَدِ الْمَنَازِلِ فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ وَأَعْلَقِهَا بِهَا‏.‏ وَبِهِ يُعْلَمُ صَحِيحُ الْمَحَبَّةِ مِنْ مَعْلُولِهَا، وَصَادِقُهَا مِنْ كَاذِبِهَا‏.‏ فَإِنَّ بِقُوَّةِ الصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ فِي مُرَادِ الْمَحْبُوبِ يُعْلَمُ صِحَّةُ مَحَبَّتِهِ‏.‏ وَمِنْ هَاهُنَا كَانَتْ مَحَبَّةُ أَكْثَرِ النَّاسِ كَاذِبَةً‏.‏ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمُ ادَّعَوْا مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏ فَحِينَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَكَارِهِ انْخَلَعُوا عَنْ حَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ‏.‏ وَلَمْ يَثْبُتْ مَعَهُ إِلَّا الصَّابِرُونَ‏.‏ فَلَوْلَا تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ، وَتَجَشُّمُ الْمَكَّارِهِ بِالصَّبْرِ لَمَا ثَبَتَتْ صِحَّةُ مَحَبَّتِهِمْ‏.‏ وَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ أَعْظَمَهُمْ مَحَبَّةً أَشَدُّهُمْ صَبْرًا‏.‏

وَلِهَذَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ خَاصَّةَ أَوْلِيَائِهِ وَأَحْبَابِهِ‏.‏ فَقَالَ عَنْ حَبِيبِهِ أَيُّوبَ ‏{‏إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا‏}‏ ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏‏.‏

وَأَمَرَ أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ بِالصَّبْرِ لِحُكْمِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ صَبْرَهُ بِهِ‏.‏ وَأَثْنَى عَلَى الصَّابِرِينَ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ‏.‏ وَضَمِنَ لَهُمْ أَعْظَمَ الْجَزَاءِ‏.‏ وَجَعَلَ أَجْرَ غَيْرِهِمْ مَحْسُوبًا، وَأَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏.‏ وَقَرَنَ الصَّبْرَ بِمَقَامَاتِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْإِحْسَانِ- كَمَا تَقَدَّمَ- فَجَعَلَهُ قَرِينَ الْيَقِينِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالتَّقْوَى‏.‏

وَأَخْبَرَ أَنَّ آيَاتِهِ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا أُولُو الصَّبْرِ‏.‏ وَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّبْرَ خَيْرٌ لِأَهْلِهِ‏.‏ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ فِي الْجَنَّةِ بِصَبْرِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ‏.‏

وَلَيْسَ فِي اسْتِكْرَاهِ النُّفُوسِ لِأَلَمِ مَا تَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَإِحْسَاسِهَا بِهِ، مَا يَقْدَحُ فِي مَحَبَّتِهَا وَلَا تَوْحِيدِهَا‏.‏ فَإِنَّ إِحْسَاسَهَا بِالْأَلَمِ، وَنَفْرَتَهَا مِنْهُ‏:‏ أَمْرٌ طَبْعِيٌّ لَهَا‏.‏ كَاقْتِضَائِهَا لِلْغِذَاءِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ‏.‏ وَتَأَلُّمِهَا بِفَقْدِهِ‏.‏ فَلَوَازِمُ النَّفْسِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِعْدَامِهَا أَوْ تَعْطِيلِهَا بِالْكُلِّيَّةِ‏.‏ وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ نَفْسًا إِنْسَانِيَّةً‏.‏ وَلَارْتَفَعَتِ الْمِحْنَةُ‏.‏ وَكَانَتْ عَالَمًا آخَرَ‏.‏

وَالصَّبْرُ وَالْمَحَبَّةُ لَا يَتَنَاقَضَانِ‏.‏ بَلْ يَتَوَاخَيَانِ وَيَتَصَاحَبَانِ‏.‏ وَالْمُحِبُّ صَبُورٌ بَلْ عِلَّةُ الصَّبْرِ فِي الْحَقِيقَةِ، الْمُنَاقِضَةُ لِلْمَحَبَّةِ، الْمُزَاحِمَةُ لِلتَّوْحِيدِ- أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ غَيْرَ إِرَادَةِ رِضَا الْمَحْبُوبِ‏.‏ بَلْ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، أَوْ مُزَاحَمَتِهِ بِإِرَادَةِ غَيْرِهِ، أَوِ الْمُرَادِ مِنْهُ‏.‏ لَا مُرَادِهِ‏.‏ هَذِهِ هِيَ وَحْشَةُ الصَّبْرِ وَنَكَارَتُهُ‏.‏

وَأَمَّا مَنْ رَأَى صَبْرَهُ بِاللَّهِ، وَصَبْرَهُ لِلَّهِ، وَصَبَرَ مَعَ اللَّهِ، مُشَاهِدًا أَنَّ صَبْرَهُ بِهِ تَعَالَى لَا بِنَفْسِهِ‏.‏ فَهَذَا لَا تَلْحَقُ مَحَبَّتَهُ وَحْشَةٌ‏.‏ وَلَا تَوْحِيدَهُ نَكَارَةٌ‏.‏

ثُمَّ لَوِ اسْتَقَامَ لَهُ هَذَا لَكَانَ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ‏.‏ وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى الْمَكَارِهِ‏.‏

فَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَاتِ- وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهَا- وَعَنِ الْمُخَالَفَاتِ- وَهُوَ مَنْعُ النَّفْسِ مِنْهَا طَوْعًا وَاخْتِيارًا وَالْتِذَاذًا- فَأَيُّ وَحْشَةٍ فِي هَذَا‏؟‏ وَأَيُّ نَكَارَةٍ فِيهِ‏؟‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ إِذَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ طَوْعًا وَمَحَبَّةً، وَرِضًا وَإِيثَارًا‏:‏ لَمْ يَكُنِ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الصَّبْرَ‏.‏ فَيَكُونُ صَبْرُهُ فِي هَذَا الْحَالِ مَلْزُومَ الْوَحْشَةِ وَالنَّكَارَةِ‏.‏ لِمُنَافَاتِهَا لِحَالِ الْمُحِبِّ‏.‏

قِيلَ‏:‏ لَا مُنَافَاةَ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ‏.‏ فَإِنَّ صَبْرَهُ حِينَئِذٍ قَدِ انْدَرَجَ فِي رِضَاهُ‏.‏ وَانْطَوَى فِيهِ‏.‏ وَصَارَ الْحُكْمُ لِلرِّضَا‏.‏ لَا أَنَّ الصَّبْرَ عَدَمٌ، بَلْ لِقُوَّةِ وَارِدِ الرِّضَا وَالْحُبِّ‏.‏ وَإِيثَارِ مُرَادِ الْمَحْبُوبِ، صَارَ الْمَشْهَدُ وَالْمَنْزَلُ لِلرِّضَا بِحُكْمِ الْحَالِ‏.‏ وَالصَّبْرُ جُزْءٌ مِنْهُ وَمُنْطَوٍ فِيهِ‏.‏ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذَا الْقَدْرَ‏.‏ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ، فَحَبَّذَا الْوِفَاقُ‏.‏ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْقِيلَ وَالْقَالَ‏.‏ وَمُنَازَعَاتِ الْجِدَالِ‏.‏

وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ‏:‏ فَقَدْ عَرَفَ مَا فِيهِ‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏